الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

رؤية إسلامية في قضايا معاصرة

الدكتور / عماد الدين خليل

( 3 )

ولقد كان خطأ الماركسية القاتل، من بين أخطاء عديدة أخرى، أنها اصطرعت مع الإنسان، والتاريخ، والخبرة الحضارية، (إذا استعملنا عبارة الناقد الإنكليزي المعاصر جون سترايتشي) .. لقد أرادت تغيير الفطرة البشرية، وإعادة تركيب الإنسان، تركيبا ميكانيكيا صارما، بأكبر قدر من التسطيح، كما يقول عالما الاجتماع المعاصران تشارلز بيج، وماكيفر.. وأعلنت الحرب على التجارب، والمؤسسات، والقيم الحضارية، التي تشكلت عبر التاريخ، لصالح الإنسان: الدين، العائلة، والأخلاق، والتي تمثل ضرورات، ومرتكزات، أساسية للحياة البشرية. وكان المنشور، أو البيان الشيوعي المعروف، الذي أصدره ماركس وأنكلز، في منتصف القرن الماضي، لا يعدو، أن يكون فورة عاطفية، أو فكرية، في مجابهة حيثيات الإنسان، والتاريخ، والحضارة.. وحاول الرجلان، وكل الذين ارتضوا، أن يتبعوهما، إلباس البيان معطف العقائدية، والعلمية، والثورية.. إلى آخره، وأن يقفزوا في الفضاء.. لكن الواقع المنظور، والممارسة البشرية، ما لبثت بعد صراع مرير، وخسائر باهظة على كل الجبهات، أن أعلنت انتصارها، على التنظير الخاطئ.. وقدرتها على الثبات والديمومة، في وجه أعاصير التبديل والتحريف.. ووجدت القيادات الماركسية نفسها، تتراجع يوما بعد يوم، وعلى أكثر من جبهة، إزاء زحف وحصار الضرورات الإنسانية، وتعلن، بين الحين والحين، استسلامها المغطى بشعارات التطوير والملاءمة، بين أسس العقيدة، ومطالب (الإنسان) !

ولقد كان من عنف الضغوط، التي مارستها الزعامات الماركسية، بالقسر والإكراه، ضد هـذه المطالب والمرتكزات، أن جاء رد الفعل بالعنف نفسه. ففي الثورة البولندية المضادة - مثلا - أصبح البابا، زعيم الكاثوليكية في العالم، رمزا ومخلصا ومعشوقا.. وفي الانتفاضة الشعبية الرومانية، التي أطاحت بالديكتاتور المعروف تشاوتشسكو، كانت صرخات الثائرين، تشق أجواء الفضاء: (قتل عدو المسيح) ! وفي جمهوريات آسيا السوفييتية، ذات الأكثريات [ ص: 46 ]

الإسلامية، أصرت الأجيال الناشئة، رغم سبعين سنة من عمليات غسيل المخ، بالتوجيه العقائدي والفكري، وبالتلقين التربوي والإعلامي، وبالقسر البوليسي والعسكري، الذي نفذته قواعد الحزب، والبوليس، والجيش، والشرطة السرية، أصرت على التشبث بقيمها، وتقاليدها، وأصولها الإسلامية، فيما حدثتنا عنه بالتوثيق الدقيق، هـيلين دانكوس، الخبيرة الفرنسية في شؤون الاتحاد السوفييتي، في كتابها: (القومية والدولة في الاتحاد السوفييتي) ، فأطالت الحديث.

وقبالة الإغراءات، والتهديدات، والضغوط كلها، قدر أحفاد الحضارة والقيم الإسلامية هـناك، على الحفاظ على هـويتهم، والوقوف إزاء القيادة، التي ما وجدت وسيلة لتدمير قناعاتهم الدينية، إلا استخدمتها.

وتجريد المرأة السوفييتية من أنوثتها، ومساواتها القسرية بالرجل، أخفقت هـي الأخرى.. والعائلة عادت، لكي تفرض نفسها في نسيج الحياة السوفييتية الجديدة.. ونظرية (كأس الماء) التي نادى بها منظرو الماركسية، والتي جعلت من الدافع الجنسي، مجرد نزوة عابرة، يمكن إفراغها بسرعة، كما يشرب العطشان كأسا من الماء، لكي يواصل الإنسان قدرته على الإنتاج، دونما توتر، سقطت هـي الأخرى، وأعلن لينين بعد سنوات قلائل، إلغاءها، واستبدالها بمنطق الأسرة والإنجاب، والطفولة، التي تأوي إلى حنان الأمهات، وتعرف على وجه اليقين من هـم الآباء..

ومنظومة القيم الخلقية، التي قيل إنها - كالدين والعائلة - انعكاس لحالة بورجوازية، راحت القيادات السوفييتية، تحرسها، وتعض على استمرارها وفاعليتها بالنواجذ، وإلا تحول الشعب السوفييتي كله إلى لصوص وقتلة، ومرتشين، وتعرضت الأنشطة الإنتاجية نفسها، للتسيب، والتفكك، والدمار.

والتقسيمات الطبقية الصارمة، والمفصلة على حجم المعطيات الاجتماعية، في منتصف القرن الماضي، تهاوت هـي الأخرى، وأصبح العمال أنفسهم، هـم الذين يتولون كبر الثورة ضد الماركسية كما حدث في أكثر من بلد شيوعي.. وأصبح الشعب كله، بجنده، ومثقفيه، وعماله، وفلاحيه، هـو الذي يخرج إلى [ ص: 47 ] الشوارع فيضحي، ويتعرض للإبادة والقتل الجماعي، ثم ما يلبث، أن يفرض كلمته، ويكنس كل الزعماء والمرتزقة، وأرباب المصالح، ممن رأوا في الشيوعية مطيتهم الملائمة، لحماية مصالحهم، وضمان مراكزهم المتقدمة، في أجهزة الحزب، والدولة، ومؤسسات الأمن والمخابرات. والإنتاجية، التي كانت معبود الماركسيين، وإلههم الجديد، التي ضحوا من أجلها بكل ثوابت وضمانات الحياة البشرية، تعرضت لانكسار عجيب، فلم تعد تسمن، أو تطعم من جوع.. وطبيعة الإحصاءات، والأرقام المعلن عنها، أصبحت مثارا للتندر والسخرية، كذلك الرقم الذي يقول بأن 98% من مزارع البطاطا في الاتحاد السوفييتي، كانت تنتج ما تنتجه 2% فقط من مزارع البطاطا في أمريكا، وكتلك الواقعة التي تقول: إن المجريين، والرومانيين، والبلغار، كانوا يأكلون الدخن والشوفان، من أجل أن يذهب القمح إلى روسيا (الأم) ، حينا، ويصدر حينا آخر للحصول على العملات الصعبة.

وهذا حق.. فإن هـيكليات النظام الماركسي، وقوالبه المتيبسة، كادت أن تأتي على أهم ما يهم المجتمعات، التي خضعت للروس، من ضمانات الطعام، وتقتلها من الجوع، وأصبحت هـذه بالذات، واحدة من مقاتل النظام الشيوعي الذي نفذت منها الولايات المتحدة، زعيمة الإمبريالية العالمية، لكي تنقص عرى الشيوعية عروة عروة، بعد أن كانت الشيوعية نفسها، قد خربت بيوتها بأيديها.

التالي السابق


الخدمات العلمية