الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

رؤية إسلامية في قضايا معاصرة

الدكتور / عماد الدين خليل

( 3 )

والشرقيون - اليوم - يملكون الإيمان - ولو وفق مواصفاته ومطالبه الدنيا - ولكنهم، لا يملكون العمل الصالح، بخصائصه التي ألمحنا إليها، ولذا نراهم يذلون ويستغلون، ويستعبدون، ويهانون.. بل ينفون من الأرض، ويشردون في الآفاق.

ولا بد - كرة أخرى - من التقاء الحدين، للتحقق بحياة فاضلة سعيدة، متوازنة.

وبمجرد نظرة سريعة على آيات كتاب الله، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، يستطيع المرء، أن يضع يديه على حشود الشواهد القرآنية، والنبوية، التي تؤكد [ ص: 130 ] هذه الحقيقة، وأنه بدون توافر الشرطين، لن يكون هـناك انتصار لعالم الإسلام، ولن يكون بمقدور العقيدة، أن تجابه التحديات والضغوط، بمعزل عن عوامل القوة المنظورة. وإننا لنلمح هـذا، ليس فقط في تأكيد القرآن والسنة على معادلة الإيمان، والعمل الصالح، بل في تلك الدعوة المؤكدة، المستمرة، على ضرورة اعتماد القدرات المادية، التي يزخر بها العالم المحيط بنا، والتنقيب عنها، والكشف عن أسرارها وقوانينها من أجل حماية المطالب العقائدية، لهذا الدين، وحماية المنتمين إليه بالتالي، بل من أجل حماية وضع الإنسان المتفوق في هـذا العالم. [1] والعمل الصالح المطلوب في الإسلام، ينطوي على الإتقان والإحسان، فيما علمنا إياه، وألزمنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا، أن يتقنه ) [2] ، أي أن يحسن أداءه، وصنعته، وإخراجه، وممارسته.. الخ، وهو الأمر الذي ضيعناه في عصور تخلفنا الحضاري، بينما تشبث به الغربيون، زمن تأسيس حضارتهم، ونموها، فاحتلوا مواقع الريادة، والقيادة العالمية، عبر القرون الأخيرة.

إن العمل الصالح إتقان، وإبداع، وإضافة، وإحسان، لصالح الجماعة المسلمة، والبشرية عموما، وهو عندما يتجذر في الإيمان، يصير من أشد القربات إلى الله سبحانه، ولقد وصف القرآن الكريم المؤمنين بأنهم: ( يسارعون في الخيرات ) وأنهم: ( لها سابقون ) ، فأضاف إلى البعد الإبداعي بعدا زمنيا يضع الإنسان العامل في مواجهة الزمن.. قبالة حركة التاريخ، كي لا يتأخر أو يتباطأ، فيتخلف عن المسيرة، ويسبقه الآخرون. [ ص: 131 ]

فهو ليس إذن العمل المتقن فحسب، ولكنه أيضا العمل الذي يحرص على الزمن من الهدر، ويبتغي اللحاق بالهدف، بأكبر قدر من الشد، والتوتر، والفاعلية.

والذين يعدهم الإسلام بالثواب في الآخرة، هـم هـؤلاء المؤمنين، الذي يدفعهم إيمانهم، بكافة مطالبه وآفاقه، إلى العمل، ويحضهم على أن يكون متقنا، ما وسعهم الجهد، وعلى أن يسابقوا الزمن، في تحقيق مطالبه، من أجل أن يظلوا في المقدمة دوما.

ولن يكون العمل، الذي يدخل صاحبه الجنة، أو يمنحه ثواب الله، وفق مواصفاته هـذه، مقتصرا على حقل من الحقول، أو جانب من جوانب الحياة، كما أنه لن يكون بالضرورة عملا أخلاقيا صرفا، بالمفهوم الشائع، أو اجتهادا فقهيا، أو نشاطا دعويا، أو وعظا وتربية، وتوجيها، وإرشادا.. إنه قد يكون هـذا كله، وقد يمضي لكي يعبر عن القدرة البشرية المؤمنة في ساحات أخرى، تنقيبا، وكشفا، واختراعا، في أشد الميادين حسية ومادية، ما دام أن صاحبه، يبتغي وجه الله سبحانه، وينفذ المطالب الملحة للإيمان، ويسعى لخدمة الإنسان، في سعيه لإعمار الحياة، وترقيتها على عين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .

وهكذا شهد تاريخنا الحضاري، أفواجا من العلماء، في مجالات العلوم الصرفة: الطبيعة، والفلك، والكيمياء، والرياضيات، والجغرافيا، والطب، والصيدلة، والنبات، والحيوان.. والعلوم التطبيقية.. الخ.. جنبا إلى جنب مع الفقهاء، والدعاة، والمربين، والمرشدين، والوعاظ، والمعلمين، والمفسرين، والمحدثين.. وغيرهم كلهم، كانوا يبدءون باسم الله، وينطلقون باسم الله، وينجزون أعمالهم مطمئنين، إلى أنها ستحسب لهم عند الله في ميزان الحسنات، التي تقربهم من الجنة، وتبعدهم عن النار! [ ص: 132 ]

وهكذا أيضا لم تمارس الكشوف والمنجزات الإسلامية، أي نوع من الأنانية، أو الاحتكار، الذي يحجب حق الاستفادة والمنفعة من هـذه الإنجازات، والكشوف، وتركت أبوابها مشرعة على مصاريعها، من أجل أن يأخذ منها من يشاء، ويبني عليها من يشاء، بغض النظر عن جنسه، وبيئته، وعقيدته، ولونه، ودينه، بل بغض النظر عن موقفه المعادي للإسلام، وأهله، وعالمه.

إن أخلاقية العمل الصالح، وارتباطها المحتوم بالإيمان، هـما في الحقيقة صماما الأمان في مناهج وأساليب هـذا العمل، وفي صيغ التعامل مع نتائجه، فليس مجرد العمل وحده هـو المقياس، وإنما يتحتم أن يكون صالحا، وكما رأينا، فإن صلاح العمل، لن يتحقق باجتهادات الناس وأهوائهم ومصالحهم، لن يتحقق برؤاهم القاصرة، ومعطياتهم النسبية.. إن مواصفات الصلاح التي تجعل العمل، وجه العبادة الآخر، وتضعه في خدمة الإنسان، لا تتحدد إلا بالمنظور الديني القادم من عند الله سبحانه، وإلا انحرف العمل، مهما غطي بديكورات التجميل والإصلاح، ومضى لكي يخدم هـذه الفئة أو تلك، ولكنه لا يخدم الإنسان، ولكي يعين على مزيد من الضلال، والتعاسة للجماعات والشعوب، ولكنه لا يقودها إلى بر الإيمان والسعادة، والتوازن، والأمان.

التالي السابق


الخدمات العلمية