الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

رؤية إسلامية في قضايا معاصرة

الدكتور / عماد الدين خليل

مغزى سـقوط المـاركسـية

( 1 )

يتضمن سقوط الماركسية، في أواخر الثمانينيات، أكثر من وجه، وينطوي على أكثر من مغزى، وهو يمتد، لكي يغطي العديد من السياقات، بدءا بالتنظير العقائدي، وانتهاء باحتمالات المستقبل. وسوف تؤشر الصفحات التاليه على جوانب فحسب، من الظاهرة، قدر ما يسمح به المجال.

البداية هـناك، في الجذور التنظيرية.. في العقيدة الماركسية نفسها، فالخطأ يكمن هـناك، وكل ما شهدته ساحات الممارسة، والتطبيق، من أخطاء، وعثرات، وانحرافات، وتناقضات، وإحباط، إنما يمثل انعكاسا أمينا ومحتوما، في الوقت نفسه، لذلك الخطأ الكبير، في أساس النظرية.

وأية محاولة لتحجيم الأخطاء، أو تعويمها، أو فك الارتباط، بينها وبين الأصل العقدي، إنما هـي محاولة خاطئة في المنهج، كما أنها، قد تعكس نوعا من التبرير للهزيمة، وحماية ماء الوجه للعقيدة (العلمية!) بحصر الانتكاسة والسقوط، في دوائر السياسة، أو الاقتصاد.

والشيوعيون أنفسهم، أول المتشبثين بمناورة كهذه، للالتفاف على حقيقة الظاهرة، وبخاصة شيوعيي الذيول، عبر جغرافية العالم الثالث، من المصابين أكثر بالإدمان على الجبن العقلي، الذي سقتهم الماركسية، كؤوسها المسكرة، إذا استخدمنا عبارة آرثر كوستلر، المفكر والأديب الشيوعي المرتد.. وقد يتابع هـؤلاء وأولئك، كثير من المغفلين، والمحسوبين على اليسار، لسبب أو آخر، والذين يهمهم، أن يظل شيء من القدسية للعقيدة، وإلا منوا بخسائر فادحة، في قناعاتهم حينا، وفي مصالحهم أكثر الأحيان.

لكن لسان الحال، والمقال معا، ومجمل المؤشرات، تقود إلى البؤرة التي تلتم عندها الخيوط كافة، وهي أن الانحراف، أو الخطأ، تمركز هـناك في العقيدة.. في جمودها.. في أحكامها الصارمة.. في انقفالها.. في احتكارها [ ص: 43 ]

الماضي بقوالبها الجاهزة.. في مصادرتها المستقبل، بنبوءاتها الكاذبة.. في رؤيتها أحادية الجانب.. في رفضها الأعمى للدين.. وفي إغفالها للإنسان، وجهلها بتركيبه المعقد، ذي الطبقات.

ورغم ما ادعاه المؤسسون والمنظرون والأتباع، من علمية العقيدة الشيوعية، فإن هـذا الإدعاء، لا يعدو أن يكون على حساب العلم، والمنهج، تفنده وتدحضه حشود من أعمال النقد، التي مورست إزاء النظرية، وحشود أخرى من الأخطاء والتناقضات والهزائم، التي منيت بها التجربة، بسبب من عدم قدرتها على التحقق بإدراك مرن لقوانين الحركة التاريخية.. ثم كانت النهاية المحتومة، ذلك السقوط الدراماتيكي، الذي بدا إلى حد كبير، مفاجأة لكثير من المراقبين، بينما هـو في الحقيقة، ليس كذلك، وإنما هـي الأخطاء والتناقضات، التي تنسحب خيوطها في النظرية نفسها، منذ لحظات تشكلها الأولى، وكان لا بد - في نهاية الأمر - أن يتمزق النسيج، وتسقط النظرية والتطبيق، لأن القاعدة - في الأساس - غير (علمية) على الإطلاق!

في ماديتها الديالكتيكية، ألغت الماركسية الدين من الحساب، وتنكرت لله سبحانه.. وفي ماديتها التاريخية، اضطرت إلى البحث عن إله بديل ودين جديد، فكانت قوانين التبدل المحتوم، في وسائل الإنتاج، وصيغه، وعلاقاته، هـي الدين وكانت الطبقة هـي الإله.. وفي تصاميمها الاقتصادية، أسرت نفسه في أفعال، وردود أفعال، منتصف القرن الماضي.. فلما شبت الممارسات والمعطيات الاقتصادية عن الطوق، وشهدت مفرداتها تغيرات جذرية عميقة، وانقلابات، تحولت بالكثير من المعادلات، من النقيض إلى النقيض.

لما حدث هـذا وذاك، لم يعد بمقدور النشاط الاقتصادي، أن يظل على قميصه الضيق العتيق، فكان لا بد، أن يمزقه، ويرمي بأوصاله، ويستبدل به قميصا غيره. إن نظرية ماركس (ورفيقه أنكلز) ، أو عقيدته (العلمية) ، كما يحب هـو وأتباعه، أن يطلقوا عليها، إنما هـي انعكاس بالحق والباطل، لمعطيات قرن مضى، [ ص: 44 ] تم تنفيذها بالقسر، في بدايات قرن أتى، فلما أوشك هـذا القرن على انتهاء، تبين بقوة الوقائع نفسها، استحالة الاستمرار على الاستمداد منها، وصياغة الحياة البشرية في ضوء معاييرها العتيقة، إذا ما أريد لهذه الحياة، أن تسترجع حقا قدرتها على التوازن والفاعلية.. فكان هـذا الذي كان، في السنوات الأخيرة، مما يعرفه الجميع.

التالي السابق


الخدمات العلمية