الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

رؤية إسلامية في قضايا معاصرة

الدكتور / عماد الدين خليل

( 3 )

إن الملامح الأساسية العريضة في المجتمع الإسلامي، أو خصائصه الشاملة، يمكن أن تركز بالخطوط التالية، وهي خطوط، يمكن أن نجد بعض امتداداتها في مجتمعات أخرى، ويمكن أن تلتقي نوعيا، أو كميا، مع ما يمارسه المجتمع الإسلامي.. ولكنها على كل حال، لن تكون بهذا القدر من التكامل، والشمول، والارتباط.. إنها هـناك مزق، وتفاريق، ولكنها هـنا توحد، وتداخل مرسوم، يسعى لتحقيق أكبر قدر من الفاعلية، والالتزام، في نطاق هـذا المجتمع.

إنه - أولا - مجتمع متوازن، على كل الأصعدة، وفي كافة المستويات.. توازن بين الروح والمادة، بما أن الإنسان نسيج متوحد من لقاء القطبين.. بين الفردية والجماعية، بما أن المجتمع الإسلامي، هـو مجتمع الإنسان،والجماعة، على السواء.. بين المنفعة،والقيم، بما أن عجلة الحياة المؤمنة، لا تمضي إلى هـدفها، دون تحقق الوفاق.. بين حاجات الناس، العملية، والتزاماتهم الخلقية، وإلا جنحت بهذا الاتجاه، أو ذاك، وفقدت ملامحها، أو قدرتها على الفاعلية.. وتوازن بين التعامل مع الطبيعة، والامتداد إلى ما ورائها، بما أن الموقف الإيماني الصحيح، هـو الذي يمد رؤيته، هـنا، وهناك، يتحرك على أرضية العالم، ويمتد إلى الآفاق البعيدة، فيما وراء العالم القريب، حيث الإيمان بالغيب يشكل ركيزة كل إيمان، ويرتفع بالإنسان إلى المكانة، التي تليق به كإنسان.

إن الإسلام يدعو إلى مجتمع، تنمو معطياته على كل المستويات الروحية، والاجتماعية، والطبيعية. وثمة ما يبدو واضحا في كتاب الله: أن كل آية تتناول مسألة طبيعية، أو حيوية، أو مادية، تنتهي بأفعال التقوى، والإيمان، بالدعوة إلى ربط أية فاعلية بالله، وهذا التأكيد المتكرر، له مغزاه.. إن منطق التوازن الحركي، الذي يرفض الانحراف، أو السكون، هـو القاعدة التي نتلمسها في القرآن الكريم بوضوح، من خلال عدد كبير من آياته، والتي تكفل نموا سليما، لأي مجتمع، يريد أن يحافظ على نقطة التوازن، بين تجربتي الروح، والمادة، ولا تنحرف باتجاه [ ص: 109 ] إحداهما، مهملة الأخرى، أو ضاغطة عليها، مستخدمة إزاءها، أساليب القمع، والكبت، والتحديد. التوازن الذي يمكن المجتمع من الحركة الدائمة، لأن الأهداف التي يضعها أمامه، تأخذ مستويات صاعدة، لا يحدها أفق، ولا يقف في طريقها تحديد صارم، إنها تبدأ بتأمين متطلبات الحياة اليومية المباشرة، وتتقدم - بعد هـذا - صوب أعمال الفكر، في قلب العالم، للكشف عن نواميسه، أو في بنيان الكون، لإدراك سره المعجز، هـذه الفاعلية، الفكرية التي ما لها من حدود تقف عندها.. ومن ثم يوالي المجتمع الإسلامي، خطواته، لتنفيذ أكبر قدر من ضمانات التجربة الروحية الشاملة، وإيصالها إلى مطامحها، التي تتجاوز الأرض، إلى أعماق السماء، وتغادر اللحظة الموقوتة العابرة، إلى عالم الخلود. إن مجتمعا يسعى إلى تغطية متطلبات الغريزة، والفكر، والوجدان، والروح، بهذا القدر من التوازن، لا يمكن أن يبلغ حالة السكون أبدا..

وهو - ثانيا - مجتمع متحرر على كل المستويات.. على المستوى الفكري،والوجداني، والفلسفي - إذا صح التعبير - حيث يغدو الإنسان سيد العالم، وحيث لا يستعبده خوف من طبيعة، أو انكماش إزاء المجهول، أو أسر تجاه المصير..

على المستوى السياسي، حيث يسقط كافة الطواغيت والأرباب، وتسقط معهم نظمهم، وشرائعهم، وحيث يتحرر الإنسان من قسرهم وإرهابهم، ويرفع جبهته عاليا، فليس ثمة إلا الله، الواحد الأحد، خالق الكون، والحياة، والإنسان،وباعث الأديان شرائع للناس، من يحني رأسه له، ويتلقى مناهجه عنه..

على المستوى التعبيري، حيث يستطيع الإنسان، أن يقول ما يشاء، ويكتب ما يشاء، في مدى المساحة الواسعة الممتدة، التي يمنحها الإسلام للمنتمين إلى مجتمعه، وهي مساحة كبيرة، لم توازها، أو تضارعها، أية تجربة [ ص: 110 ] أخرى، رغم ما يضعه الإسلام من ضوابط، ومعايير، والتزامات، إزاء حرية التعبير.

على المستوى الاجتماعي، حيث لا تستعبده الضرورات، أو تغل حركته ونشاطه حواجز طبيعية، أو حاجات يومية، يعرف الإسلام، كيف يضمن توزيعها على الناس، بالعدل، والقسطاس، وكيف يمنع تحولها إلى جدار، يصد الناس عن الذهاب إلى الآفاق البعيدة، متحررين، تلك التي جاء هـذا الدين لكي يقود الناس إليها.

على المستوى النفسي، حيث لا يميل الإنسان صوب الإشباع المادي وحده، فتنكمش، وتضمر اهتماماته الروحية والوجدانية، ويفقد توازنه بالتالي، وحيث لا ينحرف باتجاه الروح، على حساب الضرورات.. إن توازن الإنسان في المجتمع المسلم، هـو أساس تحرره، لأنه بدون تلبية نداء التكوين البشري، بكافة أطرافه ومساحاته، لن تكون هـناك حرية، بمعنى الكلمة..

وهو - ثالثا - مجتمع متكافل، حيث يلتقي الفرد بالجماعة، في وفاق عميق، وحيث تتعاضد الجماعة الإسلامية، وتتعاون، وتتآسى، في كل صغيرة وكبيرة، من أجل التحقق بأكبر قدر من التناغم،والانسجام، لدفع عجلة الحياة الإسلامية إلى الأمام، وإعانتها على مواصلة الطريق..

إن أي مجتمع إسلامي هـو - بالضرورة - مجموعة مسافرين في مركب واحد - كما يصورهم نبيهم ومعلمهم صلى الله عليه وسلم - وأنه يتوجب عليهم، أن يتكاتفوا من أجل مجابهة المخاطر، والاستجابة للتحديات، ومنع كل ما من شأنه، أن يحدث ثغرة، قد يتسرب منها الماء، وقد يقود الجميع إلى الغرق المحتوم.. إنه يتوجب عليهم، أن يعملوا يدا واحدة، من أجل أن ينطلق بهم المركب، في عرض البحر، وصولا إلى الشواطئ البعيدة، لكي يلقي مرساته بأمان..

إن المجتمع الإسلامي، كما صوره الـرسول صلى الله عليه وسلم أيضا، هـو كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى!! [ ص: 111 ]

وهو - رابعا - مجتمع أخلاقي، منضبط.. يلزم أفراده ومؤسساته، بحشد من القيم والمعايير والضوابط، من أجل ألا يجنح به ميل أو هـوى، وألا ينحرف به نزوة أو شهوة.. إننا نستطيع أن نعاين الصورة المضيئة، لأخلاقيات المجتمع المسلم، بمجرد القيام بعرض مقارن، بينه وبين سائر المجتمعات، تلك التي لا تهمها المسألة الأخلاقية، إلا بمقدار، أو التي لا تهمها على الإطلاق..

إن الالتزام الأخلاقي للمجتمع الإسلامي، يرمي إلى تكوين أخلاقية خاصة بالجماعة المؤمنة، تنبثق في أعماق الفرد، لكي ما تلبث أن تعطي لونها، للعلاقات الاجتماعية كلها.. وأن القيم الأخلاقية لتمثل - بحق - مراكز الثقل، في حضارات الأمم، وشحنات الدفع، في مسيراتها، وتكاد علاقتها الضرورية للنمو، تبدو طردية باستمرار، على مستوى الكيف والكم، فكلما التزمت جماعة ما، بمزيد من القيم الأخلاقية، وكلما سعت إلى صقل هـذه القيم، وتأصيلها في أعماق البنية الاجتماعية، تمكنت من حماية وحدتها، وإبعاد شبح التفتت والتدهور والسقوط بالتالي.. وكلما بدأت جماعة ما، بالتخلي عن هـذه الالتزامات، وطرحها جنبا، وعدم السعي لبلورتها وتعميقها، في الممارسة الجماعية، عرضت وحدتها للتفتت، وآذنت نشاطها ومستقبلها بمصير سيء قريب.

إننا نرى اليوم بأم أعيننا، كيف أن بقايا القيم الأخلاقية، التي يتميز بها رجل العالم المتقدم، ومجتمعاته، من صدق وأمانة، وتحمل للمسؤولية، وشجاعة، وإخلاص، وصبر، وتضحية، ومن رفض للكذب، والغش، والخيانة، والتهرب، والجبن، والجزع، والأثرة، هـي التي تلعب دورها الواضح، على المستوى العملي (البراغماتي) في تفوق هـذا الرجل، وذلك المجتمع، في عالم لم يعد يعترف - على المستوى النظري - بالأخلاقيات، مما يشير إلى مدى الثقل الواقع، لهذه القيم، وارتباطها العضوي، بأية ممارسة حضارية.

إن القرآن الكريم، يطرح سلما من القيم الأخلاقية، كثير الدرجات، بعيد الامتداد، من خلال مئات الآيات، المنبثة هـنا وهناك، والتي لا يسعنا الإشارة [ ص: 112 ] إليها، والتي تجيء في معظم الأحيان، ملامسة لواقعة تاريخية قريبة، أو بعيدة، معلقة عليها، مستمدة منها قيما جديدة، وذلك من أجل أن ترتبط (القيمة) الخلقية ارتباطا شرطيا، في ذهن المسلم نفسه، وتزداد توغلا في أعماقه، وتأصلا في علاقاته مع المجتمع، الذي يتحرك فيه.. ولا جدال في أن القيم الخلقية، المنبثقة عن الرؤية الإيمانية، والحس الديني، تكتسب موضوعية في ميدان العلاقات، وعمقا في ميدان الذات، لا نجد عشر معشارها، في الأخلاقيات الوضعية، المبنية على الموقف المصلحي، والتبرير البراغماتي (الذرائعي) .. إنها آنذاك سوف تفقد موضوعيتها، وشموليتها، وتقع في أسر التحيز والنسبية، فتحور وتزيف حينا، من أجل أن تلائم مصلحة ما، أو منفعة معينة، وتلغى أو تستبعد، حينا آخر، لأنها لا تنسجم أساسا، ومتطلبات الموقف النسبي، هـذا إلى أن هـذه القيم ستفقد بعدها العمقي، وتغدو أكثر قلقا واهتزازا، الأمر الذي يفقدها قوتها الإلزامية، وثباتها وديمومتها.. وإننا بمجرد إلقاء نظرة عجلى، على التاريخ البشري، سنتبين بوضوح هـذا الفرق الحاسم، بين قيم أخلاقية دينية موضوعية، شاملة، عميقة، متأصلة، وبين قيم أخلاقية، وضعية نسبية محدودة سطحية قلقة.. ولشد ما لعب هـذا التقابل الأخلاقي دوره في التاريخ، وغطى مساحات واسعة، لا تبررها بأية حال النظرة المادية الضيقة، أو المثالية الفضفاضة.

إن مقياس التفوق الحضاري، لا يكمن في حجم الإنتاج الكمي، بقدر ما يكمن في مدى أخلاقية المجتمع المتحضر، وسعيه لخدمة الأهداف الإنسانية الشاملة.. وإننا بمجرد أن نلقي نظرة سريعة، على حضارتنا الإسلامية، في عصور تألقها، ونقارن ذلك، بمعطيات الحضارة المعاصرة، على المستوى الإنساني، سنضع أيدينا على قيمة هـذا (المقياس) ، وأهميته القصوى.. إن مجتمعات الحضارة المعاصرة تتجاوز، حتى على مستوى الفكر والفلسفة، حدود الموضوعية الشاملة، وتهبط كثيرا عن أخلاقية الإنسان، بما هـو إنسان، فتحصر أهدافها، ومعطياتها، في نطاق دولة، أو عرق معين، كما هـو الحال عند [ ص: 113 ] (هيغل) ، أو طبقة معينة، كما هـو الحال عند (ماركس) ورفاقه، أو على أحسن تقدير في إطار وحدة حضارية معينة، كما هـو الحال عند (توينبي) ، هـذا بينما تطرح مجتمعات الحضارة الإسلامية وحدها، شعاراتها الإنسانية الشاملة الرحيبة، المنبثقة عن قيم الحق، والعدل، التي صاغها القرآن: ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هـو أقرب للتقوى ) (المائدة:8) ، ( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ) (الأنعام:152) .

الصدق، والأمانة، تحمل المسؤولية، الشجاعة، الصبر، الإخلاص، التضحية، الإيثار، مقاومة إغراءات الشهوة، التجرد، الصمود، التزام الحق والعدل بمقاييسهما الموضوعية، لا المنفعية.. إلى آخره.. ويطرح القرآن - بالمقابل - النقائض السالبة، لهذه الأخلاقيات، كالكذب، والغش، والتزوير، والتهرب، والجبن، والجزع، والأثرة، والانسياق وراء إغراءات الشهوة والمنفعية.. إلى آخره.. داعيا المسلمين أفرادا وجماعات، إلى مكافحتها، دون هـوادة، وإلى استئصالها من أعماق نفوسهم، ونسيج علاقاتهم الاجتماعية، رابطا إياها بمسألة الصراع الدائم، الذي لا يكف بين الإنسان والشيطان.. بين الخير والشر.. من أجل أن يمنح الإنسان المسلم، قاعدة واسعة، لتصور الموقف، وإيمانا عميقا بضرورة المقاومة، واستجاشة لكل طاقاته، من أجل الانتصار، الذي مهما كان جزئيا، فإنه في النهاية، سيضيف قوة إلى الرصيد الأكبر، في صراع الخير، ضد الشر، والإنسان ضد الشيطان.

وتكاد المسألة تبدو في المجتمع المسلم، أو في أي مجتمع، أشبه بمعادلة رياضية واضحة، كلما تجاوز الإنسان والمجتمع، في حضارة ما، درجة أكثر في سلم القيم الخلقية، تقدم خطوات إلى الأمام، وامتلك مزيدا من ضمانات الديمومة والتطور.. وبالعكس، يجيء الرجوع، والسكون، أو التفتت، والانهيار، بالإشاحة عن هـذه القيم، وإسقاطها في ميادين الذات، والمجتمع، واحدة بعد أخرى.. [ ص: 114 ]

وهو - خامسا - مجتمع حركي، يلتزم غاية في الوجود، يعيش لها، ويتحرك من أجلها: جهاد الطاغوت في العالم كله، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله.. وجهاد النفس، حتى لا يتبقى في طبقاتها، ومنحنياتها، ما يميل بالإنسان المسلم يمينا أو شمالا.. إنه صراع أبدي على مستوى الذات، والجماعة، من أجل التحقق بالسير على الصراط، والتحرر من ضغوط الشرك، التي يمارسها الطاغوت، في كل زمان ومكان.. مجتمع لا يعرف السكون، ما دامت النفس البشرية، تحمل ميلها الأبدي للهوى، وجنوحها للطين، وما دامت زعامات الدنيا، تحمل ميلها الأبدي للتجبر والقسر، وإرغام الناس على طاعة، ما لم يأذن به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. إن الإسلام يدعونا على المستوى النفسي، والداخلي، لأن نمارس باستمرار أخلاقية، أو عملية التغيير الذاتي، أو ما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم (الجهاد الأكبر) ، لكي نكون قديرين دائما، على المجابهة، مستعدين أبدا، لكشف المواقف غير الأخلاقية، وتعريتها، وعزلها: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ) (الرعد:11) ، ( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم ) (الأنفال:53) .

وهو يدعو المجتمع المسلم - على المستوى الخارجي العام - إلى الجهاد.. والجهاد كما هـو معروف، وكما يرد في عدد كبير من معطيات القرآن والسنة، هـو حركة المسلمين الدائمة، في العالم، لإسقاط القيادات الجاهلية الضالة، وإتاحة حرية الاعتقاد للإنسان، حيثما كان هـذا الإنسان، بغض النظر عن الزمن، والمكان، والجنس، واللون، واللغة، والثقافة والانتماء.. إنه - في الحقيقة - مبرر وجود الجماعة الإسلامية، في كل زمان ومكان، ومفتاح دورها في الأرض، [ ص: 115 ] وهدفها العقيدي، ومعامل توحدها، وضامن ديمومتها وتطورها، وبدون هـذه الحركة الجهادية، يسقط هـذا المبرر، ويضيع المفتاح، ويفقد المجتمع المسلم قدرته، على الوحدة والتماسك، والاستمرارية والبقاء.

إن الجهاد كهدف إيماني، حركي، دائم، أشبه بمعامل عقائدي - اجتماعي، يشد أفراد المجتمع الواحد بعضهم إلى بعض، ويوجههم صوب بؤرة واحدة، ويدفعهم إلى تجاوز السكون، والتحرك الدائم إلى أهداف أبعد فأبعد، وهذا - بطبيعة الحال - يجيء بمثابة ضمان أكبر، لوحدة المجتمع المسلم، وتماسكه، واستمراره، وصيرورته التحريرية المبدعة.. وعلى العكس، ما أن تفتر روح الجهاد في نفوس المسلمين، أفرادا وجماعات، قيادات وقواعد، حتى تتفكك عرى وحدتهم، وتتعدد أهدافهم، وتميل تجربتهم الاجتماعية إلى التباطؤ، فالسكون، وتتساقط مواقعهم الأمامية. وبدلا من أن يسددوا ضرباتهم، إلى القوى الجاهلية، ويمتلكوا زمام المبادرة الاستراتيجية في العالم، إذا بهم يتلقون الضربات، من هـذه القوى، ويتراجعون صوب المواقع الدفاعية، في الخطوط الخلفية.

فهي الهزيمة - إذن - على كل المستويات: السياسية، والعسكرية، والاستراتيجية، والعقيدية، والحضارية، في نهاية المطاف.. وإننا لننظر إلى تاريخنا، فنرى في هـذا الالتزام الكبير، معادلة رياضية، فحيثما سادت روح الجهاد مجتمعا إسلاميا، حيثما تمكن من حماية وجوده، وتعزيز وحدته، وضمان ديمومته العقائدية، وإبداعه الحضاري، واتساع ميادين نشاطه في العالم.. وحيثما افتقدت هـذه الروح الجهادية، وطمس عليها في مجتمع آخر، حيثما فقد مبرر وجوده، وتمزقت وحدته، وتباطأت اندفاعيته العقيدية، واضمحلت منجزاته الحضارية، وتقلص دوره في العالم، وآل أمره إلى التفكك، والانهيار.. وإن تاريخنا المعاصر، ليقدم لنا عشرات الأمثلة التطبيقية، على صدق هـذه المعادلة. [ ص: 116 ]

وهو -سادسا- مجتمع عالمي مفتوح، حيث جاء الإسلام، لكي يخاطب الناس كافة، ويمد يديه إليهم، حيثما كانوا، في المكان، والزمان، لكي يخرجهم من ضيق الدنيا، إلى سعتها، ومن جور الأديان، إلى عدل الإسلام، لا تصده عن هـدفه حواجز عرضية، أو مذهبية، أو طبقية، أو جنسية، أو جغرافية.. وهو في الوقت نفسه، يتيح لكافة المنضوين تحت لواء قيادته وسلطانه، أن يبقوا على أديانهم وعقائدهم، وأن يمارسوها بحرية، ما داموا قد غدوا مواطنين في دولة يسوسها الإسلام.

إن انفتاح المجتمع المسلم على الطوائف كافة، لهو مثل فذ في تاريخ المجتمعات البشرية، لم ترق إليه أية تجربة أخرى، في القديم والحديث، ولن ترقى إليه. وهو من خلال هـذا الانفتاح، يمارس تنفيذ مبدأ تكافؤ الفرص، لكافة المنضوين إليه، أو المنتمين لسلطانه، وقيادته، بحيث يتاح لكل من يملك قدرة، أو إبداعا في هـذا الجانب، أو ذاك، أن يعبر عنهما بالصيغة التي يريد، ويتقدم إلى الأمام في موقعه الاجتماعي، مسلما كان أم غير مسلم، عربيا أم غير عربي، غنيا أم فقيرا.

وهو - سابعا - وأخيرا مجتمع واقعي، لا يضرب في تيه الأخيلة والأوهام، ولا يحلم بعالم مثالي، وهو قاعد مستريح، ولكنه يسعى إلى تنفيذ مقولاته، على أرضية الواقع، وينسج مصيره، من حيثيات الزمن والمكان، ويستند إلى ما هـو كائن، من أجل صياغة ما سيكون، ويعيد تشكيل معادلات الحياة، من الأرقام اليومية المنظورة، التي يتعامل معها، صباح مساء، لكي ما يلبث، أن يتجاوز القيم المحدودة، لهذه الأرقام، صوب قيم أكبر، وأغنى، وأكثر امتدادا.

ومن أجل هـذا يضرب المجتمع الإسلامي جذوره في أعماق الأرض، ويقدر في الوقت نفسه، على أن يمد فروعه السامقة، إلى أعالي السماء. [ ص: 117 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية