( 2 )
إن استنكار حالة (الاختزال) هـذه، في الحياة المعاصرة، لا يعني رفضا للتكنولوجيا، وإنكارا لخدماتها، التي لم يعد بمقدور إنسان ما، الاستغناء عنها، والتي تتأكد يوما بعد يوم، كضرورة ملحة، من ضرورات الحياة اليومية.. إن رفضا كهذا، لا يقول به إلا شاذ، أو بوهيمي، أو درويش، أو مجنون، ولنتذكر، كيف أن عطلا ما يصيب الطاقة الكهربائية في مدينة من المدن، أو حي من الأحياء، يجعل الناس، لا يكادون يطيقون اصطبارا. وما أن تستأنف الطاقة عملها كرة أخرى، حتى يتنفسون الصعداء، ويذكرون بالخير (أديسون) ، وكل المكتشفين والمخترعين، الذين منحوهم نعمة الضوء، وتيسيرات الكهرباء..
إن الاستنكار، لا ينصب على التكنولوجيا، ولكن على طرائق توظيفها، [ ص: 65 ] وعلى تفردها في الساحة.. في التعامل مع الإنسان.. على المنظور، أو الرؤية الأحادية، التي يتم التعامل بها معها.. على الاستغلال، الذي قد تمارسه المؤسسات الاقتصادية، والشركات المنتجة، ودوائر الدعاية والإعلان، لتحقيق مكاسب خيالية في المبيعات، ليس على حساب جيب الإنسان فحسب، وإنما أيضا على حساب أعصابه، وأشواقه، وأحلامه، ومطالبه الحيوية، ومنازعه الاجتماعية.. على الجنوح، أو الميل العظيم، الذي تشهده الحضارة المعاصرة، باتجاه المزيد من المادية، تعينها على ذلك قدرات التكنولوجيا المذهلة، المتزايدة يوما بعد يوم.. على الاستلاب النفسي، الذي يحاصر الإنسان، ويأخذ بخناقه.. على التكاثر الشيئي الذي يطوقه، ويقذف به بعيدا عن مواقعه المشروعة، لكي تحتلها الأشياء..
باختصار، فإن نقد التكنولوجيا، لا ينصب على المعطى التكنولوجي، وإنما على مفردات التعامل معه، وهي مفردات، تتضمن خطأ كبيرا بحق الإنسان، وهو نقد يتوخى العودة إلى حالة التوازن المفقود، بين الآلية والإنسان، وليس نفي التكنولوجيا أساسا، لأن هـذا لا يقول به، إلا شاذ أو مجنون.
على العكس تماما، فإن النخبة، لا الناس العاديين، هـي التي تنقد، وتعترض، وتطالب بالتريث قليلا، من أجل إنقاذ الحياة، من حصار الآلية، والشيئية، والتكاثر.. من التسطح، والتضحل، وفقدان طعم الحياة.. إن المفكرين، والفلاسفة، والأدباء، والفنانين، وهم يقفون في قمة الحياة الحضارية للعالم المعاصر، هـم الذين يرفعون أصواتهم بالاحتجاج.. بل إن العديد من العلماء أنفسهم، يضيفون أصواتهم إلى أصواتهم، مؤكدين على أن هـناك اندفاعا ما، غير مدروس، في مسيرة التكنولوجيا، وعلى أن هـناك خطأ في التعامل، قد يدمر الإنسان، ويلغي سعادته وفرحه من الحساب..
إننا نقرأ هـذا كله في مؤلفات الفلاسفة والمفكرين.. في خطابات العلماء.. في روايات ومسرحيات وقصائد الأدباء.. وفي لوحات وأعمال الفنانين.. ولن يتهم أحد، أو يخطر على باله، أن أيـا من هـؤلاء، يقف ضد التحضر، أو التقدم العلمي، أو ينادي بنفي التكنولوجيا، خارج حدود الحياة البشرية. [ ص: 66 ]
إنما هـو - مرة أخرى - استنكار للجموح.. للاندفاع غير المرسوم.. للحياة العرجاء، التي تركض على ساق واحدة.. للابتزاز والاستلاب، الذين يتعرض لهما الإنسان، باسم التكنولوجيا، والتيسيرات، والإعلان! وهي - مرة أخرى - رفض للتسطح، والتضحل، اللذين يراد للحياة، أن تتشكل، وفق مطالبهما، فلا يغدو لها طعم أو مذاق، وتتخلى عن طبقاتها الأكثر إيغالا وعمقا، لكي تصبح وجها واحدا، ذا طول وعرض، ولكنه لا يملك أي عمق على الإطلاق.. إنهم يحتجون على صيغ التوظيف، وليس على التكنولوجيا ذاتها.
إنها بوادر (الارتداد) إلى الفطرة، التي تلقت ضغوطا فوق طاقتها، ولكنها ظلت، وستظل، تقاوم من أجل استعادة وظيفتها الكبرى، في العودة بالإنسان إلى سويته، وبالحياة البشرية إلى توازنها المفقود.