الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

رؤية إسلامية في قضايا معاصرة

الدكتور / عماد الدين خليل

عـصـر الاخـتـزال

( 1 )

يمكن أن تكون البداية، أعمال النحات السويسري المشهود (جياكوميتي) ، الذي اعتمد الأسلاك في نحته، للتعبير عن مأساة الإنسان المعاصر. لقد حقق في حقل النحت، مبادئ عن الجمال المذكر والمؤنث - التي حققتها الحضارة المعاصرة في الحياة العملية - بتبديد الدهن، واللحم، من الأجساد البشرية.. إن الجسم البشري قد حول - بهذا الشكل - إلى مقياس واحد، فأخذ أشكالا محددة، جافة، لا تزيد على حجم سلك حديدي..

هذا ما يحكيه الأديب الروماني (كونستانتان جيوروجيو) في روايته المعروفة (الساعة الخامسة والعشرون) .. ولقد مضى على احتجاج الرجلين: النحات، والأديب، أكثر من نصف القرن، ولا تزال عملية اختزال الإنسان ماضية في طريقها، تحت مظلة المطالب الحضارية، ومقتضيات السرعة، والاقتصاد، والإنجاز.. ولا يزال الإنسان في مطالبه الحيوية، والوجدانية، والحسية، والروحية.. في علاقاته الاجتماعية، وفي وضعه الحضاري.. ساحة للتجريب والاختبار، من أجل الوصول إلى تلك الحالة، التي لا يستهلك فيها طعاما، مستغنيا عنه بالحبوب والأقراص، ولا يمارس حبا وأشواقا، لأن إفرازاته الجنسية، يمكن أن تتحقق من أقرب طريق.. ولا يأوي إلى بيت، أو زوج، أو ذرية، لأن استمرارية الحياة بالمعدلات المرسومة، لن تسمح للرجل أن يتزوج على هـواه، وينجب كما تملي عليه رغباته، ونزوعه الإنساني.

الاختزال في كل مكان، وعبر كل ممارسة، وكأن الحياة البشرية، قد تحولت إلى ورشة كبيرة، أو حقل للتجارب العلمية، من أجل الوصول إلى أقصى درجات الإنتاجية، المتوخاة من الإنسان، في مقابل أقل قدر ممكن من الاستهلاك في الزمن، والطاقة، والرغبات، والدوافع، والميول، والأشواق.

اختزال في الجسد.. إذ يكفي، أن يعيش الإنسان، بأقل وزن ممكن.. [ ص: 62 ] تكفيه الكيلوات الأربعون أو الخمسون، بل إنها تضمن له قدرة أكبر على الفاعلية والإنجاز.. اختزال في الرغبة الجنسية، تكفي معها نظرية كأس الماء، التي نادى بها المنظرون الماركسيون يوما، والتي تتمثل بإفراغ سريع للشهوة، من أقرب طريق، أسوة بما يحدث إزاء إلحاح العطش، للانصراف، من ثم، وبعد تفريغ الشحنة المقلقة، إلى العمل والإنتاج.. اختزال في الأحاسيس، والمطالب الحيوية، إذ تكفي ثلاثة أقراص في اليوم، للتعويض عن الطعام، ويكفي فيلم تليفزيوني، للتعويض عن رحلة في الهواء الطلق.. وتكفي زجاجة عطر مركز، للتعويض عن النزهات الدورية، في الحدائق والمتنزهات.. اختزال في العلاقات والممارسات الاجتماعية، إذ تكفي حديقة واحدة، لكل مجموعة سكنية، وتكفي تحية سريعة عابرة، بين الجار والجار، بدلا من تبادل الزيارات الطويلة، وتكفي الانحناءة المهذبة، بدلا من عبارات المودة والسلام، وتكفي ساعة واحدة مع الزوجة والأطفال، في نهاية يوم من الكدح الصعب، بدلا من تضييع الساعات الطوال بصحبتهم، وتكفي سنوات ما قبل الرشد، لكي يظل الأولاد ملتصقين بالأب والأم، أما بعدها فإن عليهم أن يرحلوا، حيث لا يقتضي الأمر عند ذاك، سوى زيارات مجاملة متباعدة، لبيت العائلة، وقد لا يكون لهذه الزيارات مبرر أساسا، لأنها مضيعة للوقت.. اختزال في الأحاديث المباشرة، لأن تكنولوجيا التواصل، ألغتها من الحساب.. وفي تبادل الأشواق، لأن عصر السرعة، لا يسمح بها !

اختزال في الروح، حيث لا وقت لصلاة أو صيام، وحيث تحجم هـذه فتغدو ممارسة روتينية، محددة بساعة ما، في يوم من أيام الأسبوع.. اختزال في الراحة والاسترخاء، حيث تضيق زحمة المطالب خناقها على الإنسان، وحيث يكفي قرص من (الأتيفان) أو (الفاليوم) ، لاستدعاء النوم، في الوقت المطلوب، واستعادة التوازن، والقدرة على العمل من جديد.

اختزال في المنظور الرؤيوي للعالم، حيث لا مبرر لتجاوز العالم، إلى ما وراءه، والمنظور إلى المخفي، والظاهر إلى الباطن، والملموس إلى الغيب، والقريب إلى البعيد، والأرضي إلى السماء، والدنيا إلى الآخرة.. إن هـذا كله، [ ص: 63 ] نوع من الترف الزائد، وأحرى بالإنسان أن يحيا في عالمه المباشر، وأن يكون واقعيا، في عصر يرفض المثاليات والأحلام، وينسحق كل من لا يركض مع الراكضين، للحصول على مغنم أكبر، وضمان لقمة أكثر إشعاعا ... عصر يجعل توقف المرء فيه لمراجعة الحساب، عرضة لكي يدوسه الآخرون، والمندفعون إلى أهدافهم، بحتمية جماعية، وإحساس بالضغوط المنصبة على كل إنسان، وكأنها قدر لا فكاك منه.

اختزال في التفكير، لأن الحاسب الآلي، أغنى الإنسان عن التفكير.. وفي التأمل الذاتي، لأن عجلة الحياة، لا تسمح بالإيغال فيه.. واختزال في الإبداع، لأن ألعاب (الفلبرز) امتصت حاجة الإنسان إلى الإبداع..

اختزال في كل شيء .. في كل ممارسة.. في كل نشاط.. في كل ما يهم الإنسان في ذاته.. في تكوينه البشري.. في ملذاته.. في مطالبه الحيوية، وأحاسيسه.. في آماله وأحلامه.. في أشواقه، ومطامحه الروحية.. في علاقاته الاجتماعية.. في رؤيته للكون، والعالم، والحياة..

الإنسان يتحول إلى سلك، والعلاقات الاجتماعية، تصير شبكة من الأسلاك.. والأنشطة الحضارية، تنبض عبر حزم الأسلاك الدقيقة، التي لا ترى بدلا من أن يكون محلها القلب، والعقل، والوجدان.

والتكنولوجيا التي لم يعد يقف أمام زحفها، شيء في العالم، تمضي مسرعة هـي الأخرى، في مزيد من الاختزال.. إن (الغرامافون) الذي كان يدار باليد، بين دقيقة وأخرى، أصبح يدار بالكهرباء، ثم استغني عنه بجهاز التسجيل، ذي البكرات الكبيرة، ثم نفي هـذا لكي يحل محله الكاسيت الصغير لجهاز الجيب.. وقد يجيء اليوم، الذي يكتفى فيه، بما تستوعبه ساعة اليد.. ولقد جاء فعلا..

الاختزال في كل صغيرة وكبيرة.. والتكنولوجيا، تمضي أبدا، للإعانة عليه بحجة أنه مطلب حضاري، وأن عصر البطء، والتثاقل، عصر الأدوات والأشياء الكبيرة، التي تحتل مكانا أكبر، في حياتنا اليومية، مضى إلى غير رجعة.

الأجيال الجديدة، التي نشأت في مناخ الاختزال هـذا، لا تدرك جانبه [ ص: 64 ] السيئ، لأنها لم تكد ترى إلا وجهه المتفرد. أما الأجيال التي سبقتها، والتي عايشت إيقاع حياة أكثر مرونة، وهدوءا، وانسيابية، وسعادة، وفرحا، واستقرارا.. أخذت تشعر يوما بعد يوم، بأن الحياة أصبحت محاصرة، أكثر مما يجب، وأن لعنة ما، تأخذ بخناق الإنسان.. وأن المسرات القديمة، قد ولت إلى غير رجعة، لتحل محلها مسرات من نوع جديد، لا يكادون يستسيغون لها طعما..

بل إن الأجيال الجديدة نفسها، رغم أنها لم تعرف شيئا، عن حياة الآباء والأجداد، أو تذق سكينتهم،وفرحهم، وحلمهم الدائم، بالمزيد من السعادة.. هـذه الأجيال، يكاد المرء، يلمس، كم أنها غير سعيدة، كم أنها قلقة، مشتتة، موزعة، كم أنها لا تفرح، ولا تحلم، ولا تؤمل بيوم آخر، يتضمن قدرا مغايرا من المسرة، أو البهجة.. إن أبناء هـذه الأجيال، يركضون.. وهم حتى في ألعابهم، وهواياتهم، والتيسيرات العجيبة، التي وضعت بين أيديهم، لا يتحققون بعشر معشار السعادة والغبطة، والفرح، يوم كان آباؤهم، في أعمار الصبا والشباب، يلعبون، ويمرحون، بوسائل وإمكانات أولية، تكاد تتضاءل خجلا، أمام متع وألعاب ومسرات التكنولوجيا والآلات!

التالي السابق


الخدمات العلمية