الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

رؤية إسلامية في قضايا معاصرة

الدكتور / عماد الدين خليل

المـعـادلـة بـطـرفـيـها

( 1 )

بعض الناس، وهم يجادلون في قضية العقاب والثواب، يشيرون إلى (أديسون) الذي أنعم على البشرية بالإنارة الكهربائية، فأخرجها من الظلمات.. أو بغيره من المكتشفين والمخترعين، الذين قدمت كشوفهم ومخترعاتهم للإنسان، أجل الخدمات، في العديد من جوانب الحياة.. فيذكرون - على سبيل المثال أيضا - اكتشافات باستور، أو كوخ، أو تيسر المخدر، والأمصال، والبنسلين، للمرضى والبائسين، ثم يثنون عطفهم قائلين: ليس من المعقول، أن يدخل هـؤلاء الرواد النار، بينما يساق إلى الجنة، حشود من الهمل والدراويش، الذين لم ينفعوا أحدا من خلق الله.

والجواب: إن المسألة ليست على هـذا القدر من التبسيط، ولكنها مركبة تتضمن أكثر من وجه.

إن القرآن الكريم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تضع المعادلة بطرفيها، وبشكل واضح حاسم، لا غبش فيه، ولا جدال: الإيمان، والعمل الصالح.. فلا جدوى من الإيمان بدون عمل صالح، ولا قيمة للعمل الصالح بدون إيمان.

هذه القلة المبدعة، من المكتشفين والمخترعين، لا يستطيع أحد، أن يجزم بأنهم لم يكونوا في حقيقتهم مؤمنين، والذين يرجح أن تكون عقولهم الكبيرة، ونفوسهم المرهفة، ونزعتهم الإنسانية، وتعاملهم مع حقائق الكون والعالم، قد قادتهم ليس إلى الإيمان فحسب، بل إلى التوحيد، وإنكار خرافات الشرك والتثليث النصراني، الذي لا يستقيم، ومعطيات العقل والوجدان.. ولقد أعلن بعضهم عن قناعته هـذه، وصمت بعضهم الآخر، لسبب ما، لكنه ظل، مع [ ص: 126 ] نفسه، صادقا، إزاء الحقيقة الكونية الكبرى، متمثلة بوحدانية الله سبحانه. ويكفي أن نرجع إلى كتاب: (الله يتجلى في عصر العلم) ، الذي حرره هـوتسما، لكي نتابع عشرات، من العلماء الغربيين المتفوقين، في حقول العلوم المختلفة: الطبيعة، والكيمياء، وعلوم الحياة، والجيولوجيا، والرياضيات، ونرى كيف يقود التعامل المتألق مع الحقائق العلمية، أصحابه إلى ساحة الإيمان والتوحيد، ويدفعهم إلى إنكار خرافات الشرك، والوثنية، والتثليث.

ولعل من المفيد - كذلك - الإشارة هـنا، إلى أحد أقوال أديسون نفسه، في هـذا السياق: (إني أبحث عن الحقيقة.. وقد تقدمت في مضمارها تقدما كبيرا، خصوصا فيما يتعلق بالعالم الآخر، والحياة، بعد الموت، وإني أقر، بأنه لا بد وأن تبقى الروح، وتحيا بعد انفصالها عن الجسد ... ) .

إذا استثنينا تلك القلة المبدعة، وانتقلنا إلى السياقات البشرية العامة، الأكثر عرضا وامتدادا، في واقع المجتمعات الغربية، فإننا سنجدها تعمل العمل الصالح، ولكنها لا تملك الإيمان، في الأعم الأغلب، ولذا نراها تتعذب في الدنيا قبل الآخرة، هـذا العذاب، الذي يعبر عن نفسه، بصيغ القلق، والتأزم، والتشتت، والتمزق، واليأس، والانحراف، والجريمة، التي تبلغ أقصى حالاتها بقتل النفس، إلى تزداد منحنياته في الحياة الغربية، يوما بعد يوم. وبمجرد أن يرجع المرء إلى آداب القوم وفنونهم، إلى فكرهم وفلسفتهم، إلى إعلامهم المسموع والمرئي والمقروء.. إلى آخره.. فإنه سيجد بأم عينيه حشودا من مفردات هـذا العذاب اليومي، لمجتمعات تعمل العمل الصالح، لكنها لا تؤمن بالله!

ثم إن علينا أن نتريث لحظات، لتفحص تعبير كهذا: (العمل الصالح) ، فمن قال: إنهم يعملون صالحا، بكل ما يتضمنه الصلاح من معنى؟ فمن إذن استعمر بلادنا، وسامنا سوء العذاب، عبر أكثر من قرنين؟ من استنزف ثرواتنا، [ ص: 127 ] ودمر قدراتنا، وصدنا عن المضي في طريق التقدم الحقيقي، للتحقق بالحد الأدنى من الحياة الملائمة للإنسان؟ من أعلن الحرب على ديننا، وسد كل الطرق والمنافذ لكي يرجع ثانية، فيصوغ الحياة الإسلامية، ويشكلها، ويقودها، ويجابه بها العالم؟ من بنى جوانب كبيرة من تقدمه المادي، وسعادته الاجتماعية، وتفوقه، ورفاهيته، على حساب قدراتنا وإمكاناتنا، وسعادتنا، ورفاهيتنا؟ من لا يزال إلى اليوم يجلس إلى الموائد المستديرة، وغير المستديرة، لكي يرسم الخطط من أجل الاستمرار في الهيمنة - غير المعلنة - على عالمنا المنكود، ونهب ثرواتنا المهدورة، وتدمير مستقبلنا المنشود، ومنعنا من اختيار العقيدة، التي تمنحنا المكان المناسب في خرائط العالم؟!

أي عمل صالح، وهو يزن بميزانين، ويكيل بمكيالين، فيكون عدلا مستقيما في دائرة الحياة الغربية، ويصير ملتويا معوجا، مع الشعوب الأخرى كافة؟ أي عمل صالح، هـذا الذي يلتزم منظومة القيم الخلقية، أو بعضها، في الأرض الغربية، ثم هـو يضرب بها عرض الحائط، خارج هـذه الأرض؟

ثم.. أي عمل صالح هـذا، داخل الحياة الغربية نفسها، وهو يزداد يوما إثر يوم، بعدا عن نقائه، وتجرده، وإخلاصه، ونظافته، ويرتكس يوما بعد يوم، في المزيد من الغش، والكذب، والخديعة، والقذارة، والانحناء أمام مطالب المصلحة وحدها، بعيدا عن أي استشراف، أو ضابط ديني أو أخلاقي؟

ويكفي أن نشير، مجرد إشارة، إلى حشود المفردات السيئة، التي تتزايد في الحياة الغربية، بمعدل متواليات هـندسية، يعلن عنها إعلام القوم صباح مساء: سرقة، واغتصابا، وابتزازا ورشوة، وغشا، وتبذلا، وانتحارا جمعيا؟ ويكفي - كذلك - أن نتذكر، ما كانت تتميز به الصناعات الغربية، التي كنا نستوردها، من دقة وإحكام، وإتقان، وما هـي عليه اليوم من غش، وتدليس، من [ ص: 128 ] أجل تعرضها للتلف، بأسرع وقت، والاضطرار - من ثم - إلى استيراد المزيد لتحقيق المصلحة الصرفة للمنتج الغربي.

وغير هـذا، مما لا يتسع المجال لمجرد الإشارة إليه، بحيث إن العمل أو الإنجاز الغربي، يفقد صلاحه يوما بعد يوم، بكل المقاييس الدينية والأخلاقية، والفنية الصرفة.

وثمة ملاحظة أخرى: إن الإبداع الغربي، لم يتوجه في معظم الأحيان، وبشكل موضوعي عادل، إلى البشرية عموما، بل إنه اقتصر على فئات محدودة من الغربيين أنفسهم.. وهكذا فإن صراع الطبقة العاملة في الغرب، يمثل رفضا وإدانة لهذا الإبداع، لأنه احتكر لفئة معينة؛ ليس هـذا فحسب، بل إنه وجه في كثير من الأحيان لإلحاق الظلم والأذى، والاستغلال، ليس لأبناء الجلدة من الفقراء، والكادحين فحسب، بل لعديد من الشعوب المستضعفة، التي لا تملك القدرة على الرد المتكافئ، فاستعمرت، واستنزفت ماديا، وبشريا، وحضاريا.. وبعضها أبيد، أو شرد في الأرض بالتفوق الغربي، ولصالح الرجل الغربي، وليس (الإنسان) .

التالي السابق


الخدمات العلمية