الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

رؤية إسلامية في قضايا معاصرة

الدكتور / عماد الدين خليل

القـرآن الكـريم وفلسـفة التاريـخ

( 1 )

يمكن للمرء، وهو يتابع في دائرة فلسفة التاريخ، النظريات المختلفة، في تفسير التاريخ، وبغض النظر عن صوابها، أو خطئها، كفلسفات ونظريات، أن يتبين، ودونما تكلف، أو صعوبة، أن أي جانب خاطئ، أو مفردة سلبية، من هـذه النظرية أو تلك، سبق وأن أدانه القرآن الكريم، وأن أي جانب صحيح، أو مفردة إيجابية، أو كشف ذي قيمة، سبق وأن أكده القرآن!

وبمقدور المرء، أن يجد حشودا من شواهد الإدانة، أو التأكيد القرآني، لهذا الجانب، أو ذاك، وهي تتدفق دونما تمحل، أو استدعاء.

( 2 )

في نظرية توينبي، في التفسير الحضاري للتاريخ -على سبيل المثال- يبرر مبدأ التحدي، والاستجابة، ومسألة الحد الوسط، وكيف أن السهولة البالغة للبيئة لا تستثير تحديا، ولا تنشئ بالتالي حضارة.. وفي المقابل فإن الصعوبة البالغة، تضع الاستجابة، في حالة استحالة، وتجهض أية إمكانية لنشوء الحضارة، بالتالي. وهكذا فإن الحد الوسط، الذي تتوازن فيه المصاعب، والتيسيرات، هـو الذي يشكل نواة الاستجابة، ويمنح الفرصة للتحقق الحضاري، عبر التاريخ.

ألا يذكرنا هـذا، بالآية القرآنية الكريمة: ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) (القمر:49) ، وبالآية الكريمة: ( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء، إنه بعباده خبير بصير ) (الشورى:2) ، وبغيرهما من الشواهد القرآنية، التي تؤكد المعنى نفسه؟ ألا يذكرنا بالآيات الخاصة بتذليل الأرض، ومنحها المواصفات، التي تمكن الإنسان، من ممارسة [ ص: 71 ] مهماته العمرانية في العالم؟ وكذلك بآيات التسخير، التي تجعل العلاقة بين الإنسان والكرة الأرضية، علاقة تمهيد مسبق، وظروف مواتية، وبالقدر المناسب، لتنمية الحياة، وللتحقق بالمزيد من الإنجازات، والتيسيرات؟ ألا يذكرنا بدعوة القرآن المؤكدة، في حشود المقاطع، والآيات، إلى ضرورة التنقيب في الأرض، لاستخراج الخامات، والنظر في السماء لإدراك سننها ونواميسها، فيما يمنح الإنسان - في الحالتين - فرصة للتحقق العلمي: النظري والتطبيقي، والذي يعد أساسا لقيام الحضارات، وديمومتها؟ ألا يذكرنا بحملة القرآن المتواصلة ضد الترف، لأنه يمنح الحياة استرخاء أكثر، ويحيطها بالتيسيرات المبتذلة، التي يضيع معها شد القدرات، واستفزاز التحديات، على كافة المستويات، الجسدية، والنفسية، والأخلاقية، ويسوق الحياة بالتالي، إلى التفكك والدمار، في مقابل غياب متزايد للفعل والإنجاز؟

( 3 )

في النظرية المذكورة، نجد كذلك، كيف أن معظم الجماعات، والعروق البشرية، وأعطيت الفرصة، لكي تنشئ حضاراتها الخاصة بها، بغض النظر عن مواقعها في الزمن والمكان، وعن أصولها البيضاء، أو السمراء، أو الصفراء..

ألا يذكرنا هـذا بالآية القرآنية الكريمة، التي تقول: ( كلا نمد هـؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ) (الإسراء:20) ، وبالآية الكريمة: ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء ) (الإسراء:18) ؟

طبعا، فإن هـاتين الآيتين، أو أي شاهد قرآني، يتضمنه بحث، أو مقال، ينطوي على أكثر من بعد، ويمنح أكثر من مغزى، فلا يقتصر على المعنى، الذي ذهب إليه هـذا المفسر، أو ذاك، ولا يقف عنده، اللهم إلا في أنماط معينة من الآيات المعنية - مثلا - بالعقيدة أو التشريع. [ ص: 72 ]

إنما يرد الاستشهاد هـا هـنا، أو يلتقي مع تلك الدلالات القرآنية، التي تتوازى بدرجة أو أخرى، مع كشوف، ومعطيات، مفسري التاريخ، وفلاسفته.

التالي السابق


الخدمات العلمية