الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        المنهج النبوي والتغيير الحضاري

        برغوث عبد العزيز بن مبارك

        منطقية السنة النبوية في التعامل مع الظواهر الاجتماعية

        إن منطق السنة في التعامل مع الظواهر الاجتماعية منطق متميز، أخذ قوته الاستدلالية، ومنهجه البرهاني، من منهج القرآن الكريم، الذي يمتلك حق النظر في الماضي، والحاضر، والمستقبل، وفي كل غيب علمه عند الله سبحانه وتعالى ، ويتحكم في هـذه الحركة بشكل مستوعب، وصحيح لا ريب فيه مطلقا. فهو [ ص: 92 ] صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة. وعلى هـذا فالسنة النبوية مثلا عندما تتحدث عن ( قصص الأنبياء) ، فهي تكشف لنا عن تجارب حضارية عميقة وعن تركيب جوهري للحقيقة الدينية، مع حوادث الكون، والحياة. ومن هـنا يكون لها القصص النبوي، حق كشف السنن، وتوجيه الناس إلى سنن الهداية. فعندما تعطي السنة النبوية حكما حضاريا، وتاريخيا مضطردا، فإنما تأخذ حجتها من الموقف القرآني الكلي، وتعتمد فيما وصلت إليه على استقراء كلي للمنطق القرآني في دراسته للظاهرة التاريخية.. وهذا مثال لذلك، فقد ( ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقى في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنا في قوم قط، إلا وكثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان، إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير الحق، إلا فشا فيهم الدم، ولا ختر بالعهد، إلا سلط الله عليهم العدو ) [1] لنحاول فهم الحديث في منظور منهجي معين. ولتسهيل التحليل نقسم الحديث إلى موضوعات: ظهور الغلول (مرض اجتماعي) في مجتمع يؤدي إلى (أزمة نفسية) ، من مظاهرها: (إلقاء الرعب في القلوب) ، وهذا يؤدي بدوره إلى نتائج حاسمة في غير صالح المجتمع، الذي يمارس هـذه الأعمال. فالسبب مرض اجتماعي، والنتيجة أزمة نفسية، تجعل حياة الناس في قلق، وفوضى، وخوف، وهذا صحيح، ومعيش في حياتنا.

        - فشو الزنا (مرض أخلاقي) في مجتمع يؤدي إلى (نتيجة كونية تدخل في إطار السنن التكوينية وتساهم في هـلاك النسل) وهي حدوث الموت، ومصداق هـذا الحديث في هـذه الأيام هـو مرض (الإيدز) . [ ص: 93 ]

        - نقص المكيال والميزان (مرض اقتصادي) يؤدي إلى (أزمة معاشية) هـي انقطاع الرزق، وهذ معناه هـلاك الأموال.

        - الحكم بغير الحق (مرض سياسي) يؤدي إلى (أزمة أخلاقية) هـي التقاتل، والتنازع، وهذا سيؤثر في بقاء النسل، ويساهم في فشو الدم الذي يخرب به العمران البشري.

        - والختر بالعهد (مرض أخلاقي ونفسي) يؤدي إلى (أزمة حربية) وتقاتل وتسلط الأعداء، وبالتالي الخوف، وضياع الأمن، وتعثر الاقتصاد، وانهيار البلاد، وهلاك مصالح العباد، من حفظ للدين، وللعقل، وللنفس، وللنسل، وللأموال.

        هذه الثنائيات التي يذكرها الحديث، والتي تمثل سببا ونتيجة، ليست مذكورة على سبيل الحصر، وإنما مجرد أمثلة بسيطة للسنن، التي تتحكم في الظاهرة الاجتماعية في مستواها الاخلاقي، والاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، والتربوي، والعسكري، والعمراني، والنفسي. أي أنه يمس كل حياة الناس، ويرتب نتائج على أكثر من علم، ومنهج وصعيد.

        فالحديث يقدم منطقا معينا في فهم الحركة التاريخية، والاجتماعية، وبأمثلة تمس بعض جوانب الحياة الإنسانية، والروح التي تسري في أحشاء الحديث هـي الروح السننية. بمعنى أنه مبني على أسباب، وقوانين، وسنن مضطردة لا تتخلف في أي زمان ولا مكان في حالة توفر الشروط المحددة لكل قضية من القضايا المطروحة. ومن هـذا المنطق بالذات استطاع النبي عليه الصلاة والسلام ، بحكمته، وإحاطته بالأمور، أن يخترق حدود الزمان، والمكان، ليقرر مسألة (الغثاء) التي تعيشها أمتنا اليوم. فهو ليس بالضرورة تكهن خرص، وليس كذلك رجما بالغيب، وإنما تبصر، وفهم. فهو وعي للسنن الإلهية، ولقوانين الحركة التاريخية، وهذا هـو المنطق الكلي الذي جاءت السنة النبوية لتثبيته في حياة الناس، وتنبههم عليه بوعي، ومن خلال تجارب عملية، ومواقف بشرية، [ ص: 94 ] صنعت أحداث قسم من التاريخ العالمي، هـو تاريخ الحضارة الإسلامية بكل ما تحمله من خصائص متميزة.

        فلو تساءلنا مثلا عن سبب فشو الغلول، والزنا، ونقص المكيال والميزان، والحكم بغير الحق، والختر بالعهد.. إلخ، لوجدنا السنة النبوية المطهرة ترسم لنا وعيا آخر، على صعيد آخر من الأسباب، والمنطق الاستدلالي ربما يهدينا هـذا الحديث إليها: ( عن أبي هـريرة رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هـهنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه. ) [2] فالحسد، والتناجش، والتباغض، والتدابر.. أمراض نفسية، وأخلاقية، تؤدي إلى سلوكيات، وأعمال للجوارح، تؤثر في الحركة الاجتماعية بأكملها.. والبيع على بيع الأخر، والظلم، والخذلان، والكذب، والتحقير.. إلخ أمراض أخرى تصدر عن نفس مريضة، وكل هـذه الظواهر السقيمة هـي التي تصنع الأزمة داخل المجتمع بعد أن تكون قد كونتها في النفوس، وبالتالي يحدث الانهيار الاجتماعي. والرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى مركز الداء العضال، منبها إلى مصدره، ومؤشرا على موقعه الحقيقي ( التقوى هـهنا ) هـناك في عالم القلب، والفؤاد، والعقل، والنفس. ولهذا نجده في نفس الحديث، يضع حدودا أخلاقية لحفظ القلوب، وتزويدها بالضابط الروحي، والناظم الأخلاقي، الذي يلهمها القدرة على الانسجام مع سنن الله في الخلق، (كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه ) . [ ص: 95 ]

        ولا يتوقف النبي صلى الله عليه وسلم عند هـذا الحد، بل يرسم منهاج الحل للمشكلات، ويعطي التدابير العملية لذلك، وهذا ما نستخلصه من حديث سنني آخر: ( عن أبي هـريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.. ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة.. ومن ستر مسلما، ستره الله في الدنيا والآخرة.. والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه.. ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له طريقا إلى الجنة.. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون الكتاب ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده.. ومن بطـأ به علمه لم يسرع به نسبه ) [3] في هـذا الحديث سنن، وقوانين، وتوجيهات تسعى إلى تأسيس القاعدة الأخلاقية للسلوك البشري، وما التوجيهات، والطرق التي قدمها الرسول صلى الله عليه وسلم في هـذا الحديث، بغرض تحقيق الرقي الروحي والسلوكي، إلا مظاهر للغاية الأخلاقية الاجتماعية، التي يقصدها الرسول صلى الله عليه وسلم . لقد ربط كل فعل بجزاء إلهي لا نظير له. فكما ربط تنفيس الكربة في الدنيا، بجزاء إلهي، هـو تنفيسها في الآخرة - وما أعظمه من أمل يعيش من أجله المسلم - فقد ربط التيسير على المعسر، بتيسير الله في الدنيا والآخرة. وهكذا تواصل منطقية السنة في تقديم نظامها البرهاني للحركة التاريخية، ورسم وعيها في شكل نظام منهجي أخلاقي، يمكن تطبيقه في أرض الواقع، وفي حياة الناس، وما غايتها إلا العمل من أجل المحافظة على مقاصد الشارع في الخلق، كما أمر المولى تبارك وتعالى. [ ص: 96 ]

        فالغاية القصوى للسنة، والتي أخذتها من القرآن الكريم، هـي السعي إلى (إخراج المكلف عن داعية هـواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هـو عبد لله اضطرارا [4] إن هـذا العرض العام لبعض الأحاديث، مكننا على الأقل من اكتشاف المدخل الأولي، الذي يمكن أن نستعمله، من أجل فهم منطقية السنة، ونظامها البرهاني، ومنهجها الاستدلالي، ورؤيتها المنظمة للظواهر الإنسانية، وتعاملها مع عالم الأسباب. فعمق هـذه الأحاديث، يعبر عن وعي الرسول صلى الله عليه وسلم لسنن الله في الخلق. وعليه فالسنة النبوية المطهرة ساحة خصبة للسنن الإلهية العاملة في الذكر، والأنفس، والكون.. واكتشافها، وفهمها، وتسخيرها، مطلب شرعي، ولازمة استخلافية، لا تقوم بدونها حياة إنسانية مستقيمة على الطريقة.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية