الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        طبيعة الجهد النبوي من الوجهة الحضارية

        فمن هـنا آثرنا في هـذه الدراسة الأولية، في موضوع (المنهج النبوي والتغيير الحضاري الجديد) ، أن نحاول تحديد مدخل منهجي عام للتعامل مع الظاهرة السنية. [ ص: 42 ]

        إن دراسة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وحركته، في مدة ثلاثة وعشرين عاما، هـي في جوهرها دراسة في تشكيل حضارة، وبناء وأن نموذج حياتي جديد، يدين : بـ (لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) . فأقواله، وأفعاله، وتقريراته، وشمائله، وفضائله، وأخلاقه هـي القواعد التي عليها بني المجتمع الإسلامي، وعضد لبناته. فلم يكتف عليه الصلاة والسلام بوضع مخططات التغيير، وبرامجه، ومناهجه، وكيفياته، وموجباته، بل ساهم في البناء حتى وصل به إلى المرحلة التي أكمل فيها (مهمة البلاغ المبين) التي أمره بها الخالق عز وجل . حيث لا يمكن لأي مشكك أو متوهم أن يثير أي شبهة عن كمال هـذه المهمة، وشمولها لكل ما يخص بناء الانسان، والمجتمع، والثقافة، والحضارة التي تدين بالإسلام.

        قال تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكـم نعمتي ورضيت لكـم الإسلام دينا ) ( المائدة :3)

        ومهمة البلاغ المبين على الصعيد العملي، هـي التي أنتجت الحضارة الإسلامية، وأدخلت القبائل العربية الجاهلية إلى مرحلة التفاعل مع القضايا الحضارية الكبرى التي كانت تدور على محوري فارس، وروما. فالمبلغون الأوائل تحت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم هم المؤسسون (لعلم الدعوة الحضارية العالمية) على الصعيدين النظري، والعملي.. وبطبيعة الحال تكون دراسة الحضارة الإسلامية الأولى هـي دراسة في صميم الجهد النبوي، وفي منهجيته في البلاغ، والدعوة، والتغيير الحضاري، والتي كان من آثارها ذلك العملاق الإسلامي الذي أثرى مسيرة الإنسانية، وقدم لهما نموذجا حضاريا فطريا متوازنا، ومتطابقا مع الخطاب الإلهي.. فكانت الحضارة الإسلامية هـي (حضارة المصلحة) بخلاف الحضارات التي عاصرتها، والتي نعاصرها نحن اليوم بعد أربعـة عشرة قرنا من [ ص: 43 ] الزمـان، أعني (حضارات المصلحية) .

        فالدارسون لجهد الرسول صلى الله عليه وسلم الثاوي في كل جانب من جوانب الحضارة الإسلامية، يجب أن يلاحظوا بأن هـذا الجهد كان نتاجا طبيعيا لتفاعل عناصر أساسية لا يمكن أن نفهمهما إلا في صورة متكاملة، تقدر قيمة كل عنصر من عملية البناء الحضاري النبوي وهي:

        - عنصر الوحي الأعلى (قرآنا وسنة) بما فيه الرؤية، والمنهاج، والمشروع الإسلامي.

        - وعنصر الواقع الجاهلي، في معناه الشمولي المتضمن لحضارتي فارس، والروم.

        - والجهد النبوي، في منهجيته، ومقاصده، ووسائله، وأساليبه.

        - وجهد الصحابة، على اعتبار كونهم الجماعة المؤسسة الأولى.

        فالنبي عليه الصلاة والسلام بشر، كان يتحرك بالوحي في واقع إنساني، ومطالب بالتبليغ عن ربه، وذلك بدعوة الناس إلى الإسلام، وتشكيل الجماعة الموحدة التي تحمل هـم المشروع، وهم توريثه للأجيال الإسلامية المتعاقبة. فمهمة الرسول صلى الله عليه وسلم تقتضي وعيا على الخطاب الإلهي، ووعيا على الواقع، ووعيا على معادلات البشر، والمجتمعات المعاصرة، ووعيا على منهج البلاغ المبين، ووعيا على علوم التوجيه، والتربية، والسياسة، والاجتماع، والتاريخ والحروب.. ونحن عندما ندرس جهده عليه الصلاة والسلام ، نجد فيه كل هـذه التخصصات منظمة في وحدة متكاملة، ومتناسقة. ففي كل عمل أو قول أو تقرير أو خلق.. تبرز لك الحكمة، وترى الوعي يتدفق ليروي عقول العلماء العظام الذين أفنوا أعمارهم في التحصيل، فلا يسعهم أمام هـذا الجهد إلا الاعتراف الصادق والحقيقي بعظمته، وصحته، وفعاليته.. [ ص: 44 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية