الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        من خصائص الواقع العالمي القائم:

        إن المتأمل المتعمق في واقعنا الإسلامي الراهن، سوف يلاحظ كل أصناف الفوضى، والتسيب، والانهيار. فالتجزئة المشينة للأمة، والتشتيت المخطط لطاقاتها، والقهر السياسي، والفقر، والحرمان، والجهل، والأمية، والتخلف، والبطالة، والتبطل، والتبعية، والعلمانية، والعصبيات القبلية، والنعرات الثقافية، [ ص: 72 ] وحب الدنيا وكراهية الموت، والصراعات الداخلية، والإقليمية، والصراع الثقافي، والفكري، والمديونية، والهزيمة النفسية، والضعف الفكري. كل هـذه الأمراض التي تطبع حياتنا، تؤثر بشكل مباشر في أي جهد تغييري، نريد أن نقوم به لصالح حفظ مصالح العباد، وحمايتهم من الظلم والخوف، والاستبداد.

        إن ما نصبوا إليه هـنا ليس هـو تشريح هـذه الأمراض، ودراستها بشكل مخبري علمي، فهذا مجال آخر، وإنما نسعى إلى تحديد الخصائص العامة للواقع البشري بمقدار ما يجلي الأفكار التي نعرضها، ولهذا فسوف نذكر بعض هـذه الميزات الأساسية في هـذه العناصر:

        خاصية العالمية

        هذه هـي إحدى الخصائص الأساسية والمهمة، التي تطبع الواقع الإنساني القائم، ويبدو أن كل تغيير حضاري يتجاوزها سوف يبقى مراوحا في مكانه مهما بدت لياقته في بعض مراحل السير، ونحن كأمة بحاجة إلى وعي هـذه الفكرة بشكل عميق. لأن أصلها التكويني يمتد إلى طبيعة المذهبية الإسلامية في تشكيلها النهائي ( القرآنية ) . فختم النبوة معناه عالمية الحضارة الإسلامية، وثقافتها التوحيدية، ومعناه كذلك ( الظهور الحضاري ) للدين الحق، ولكن ما يلاحظ اليوم هـو أن المسلم غافل عن هـذه الحقائق الكونية الكبرى، وأن غيره من الأمم، والحضارات تطرح أفكارها في سوق الحضارة، وتروج لها بشكل فعال جدا، حتى أصبح ادعاء ( عالمية الحضارة الغربية ) ، من حقائق التاريخ البشري المعاصر التي يروج لها حتى بعض أبناء الأمة. فالطرح الذي تقدمه الحضارة الغربية لفكرة عالمية الحضارة، لا يخدم بأي حال من الأحوال فكرة عالمية الحضارة، كما يريد الإسلام تقديمها للبشرية، بل تعاديها وتحاربها دون هـوادة. [ ص: 73 ] فنحن كأمة، نؤمن بفكرة العالمية للحضارة من منظور الظهور الكلي للدين الحق، الذي سيحقق مصالح العباد في الدارين، كما أننا نعلم يقينا بأن طرح فكرة العالمية -إسلاميا- هـو البديل الحضاري الذي بمقدوره حل الأزمة الإنسانية الراهنة، على جميع الأصعدة.

        لقد رفعت الحضارة الغربية طاقة الإنسان إلى مستوى غير مألوف، وعندما وصلت هـذه الطاقة إلى درجتها تلك، قلبت كل حقائق التاريخ، وأدخلت فيه عنصر قوة، بطابع الشمول، وبذا وجدت الشعوب جميعا نفسها وكأنما تقلها سفينة واحدة إلى مصير واحد. فهي شيئا فشيئا بفضل التطورات الصناعية الحديثة، وبخاصة في الميدان الذري، بات عليها أن تجتاز مجتمعة بعض المراحل الحاسمة وأن تعالج مشتركة بعض المراحل الجوهرية. وهكذا نرى أن تحلل المادة يتفق مع التجمع الإنساني، إذ لم تعد هـناك جزيرة الفردوس التي يمكن للإنسان أن يعيش فيها منعزلا عن تيارات الأحداث. لقد صنعت الحضارة الغربية عالما يترابط فيه الناس ويتعرفون فيه على الخير والشر، وقد يؤثر عامل القوة في كلا الاتجاهين دون تمييز، كأنه قوة عمياء لم يتحدد توجيهها (... ) وهو بقلبه للأوضاع التي سبق أن خلقها، لم يكف عن أن ينمي عجينته الهائلة، حيث أوجد فيه جميع عناصر الأزمة النفسية، والزمنية الراهنة، في الوقت الذي يفرض فيه جميع ظروف حلها (... ) فالظاهرة هـي عالمية الحضارة الغربية، التي تطرد بدافع من قوتها الخاصة (... ) والعالمية في مجراها ليست طرفة تاريخية من مفاجآت التاريخ، وليست اتجاها عقليا أو سياسيا، وإنما هـي ظاهرة القرن العشرين [1] لنحاول الرجوع بهذا التحديد إلى أصوله، إلى ما قبل هـذا التاريخ، رغم أن [ ص: 74 ] هذه هـي المرحلة التي بدأت تظهر فيها فكرة العالمية، كطرح مؤسسي اجتماعي، فالعالمية التي نعنيها هـي طور آخر من أطوار الوجود البشري، فوق الكوكب الأرضي.. والواقع الراهن بظروفه، سوف يتيح لنا إخراج الفكرة إلى حيز الواقع بعد أن دامت قرونا متطاولة في حيز القوة، تنتظر لحظات التاريخ الكبرى كاللحظة التي تعيشها البشرية اليوم مثلا.

        فكرة العالمية وختم النبوة

        في الحقيقة وكما ذكرت فيما سبق بأن فكرة عالمية الحضارة متصلة مباشرة بفكرة ( ختم النبوة ) ودلالتها على الصعيد المنهجي، والفكري، والعملي، لفهم المسلم لرسالته بصورة خاصة، وفهمه لحركة العالم، ومآليته بشكل عام. فمن الدلالات الأساسية لختم النبوة ما ذكره العلامة إقبال ، رحمه الله:

        (إن مولد الإسلام هـو مولد العقل الاستدلالي، وأن النبوة لتبلغ كمالها الأخير، في إدراكها العميق لاستحالة بقاء الإنسانية معتمدة إلى الأبد على مقود تقاد منه، وأن الإنسان لكي يحصل على معرفته بنفسه، ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هـو [2] [3] . ويقول الاستاذ جودت سعيد حفظه الله: يمكن النظر إلى ختم النبوة من جانب آخر على أنها فكرة تعلن انتهاء الدروات الحضارية.. وبانتهاء النبوة، وختمها، انتهت الدورات، وأمسك الإنسان بسنن الحضارة ليجعلها مستمرة.. فمعنى ختم النبوة: ختم الدورة الحضارية.. والميزة الأخرى لمحمد صلى الله عليه وسلم أنه للناس كافة، وهذه هـي عالمية الحضارة، وانتهاء زمن الدورات، وإن كنا لا نزال نعيش دورة الحضارة، وتعددها، إلا أن إرهاصات زوالها بدأت تبرز لمن تأمل ) [4] . [ ص: 75 ]

        إن ختم النبوة إعلان رسمي عن انطلاق عهد الجهاد الحضاري الطويل، وبداية عصر البحث عن البرهان الواقعي، والعملي على فكرة عالمية الإسلام، التي تقررت في عالم العقيدة الإسلامي كأساس من أسس الدعوة التوحيدية.

        إننا في واقعنا الراهن نعيش معطيات العصر العالمي، ولكن يبدو أننا لم نفكر بعد، كما لم تفكر الحضارة الغربية بجد في موضوع العصر العالمي، وشروط العيش فيه:

        فالحضارة أصبحت مع الثقافة الغربية هـدفا مقصودا، وعملا شعوريا، وفنا، ووظيفة تتطلب ذكاءه، وإرادته وهو يرى فيها غايته الأرضية. هـذه الذاتية الجديدة، قد وسعت أولا حقل الحضارة نفسها، حين مدته من النطاق القومي، والعنصري إلى النطاق العالمي، والإنساني، ولكن الغرب حين حقق امتداد الحضارة في المكان، بفضل قوته الصناعية، قد أحدث تحولا في طبيعتها التاريخية.. إن منعطف التاريخ الحالي.. يجتاز بالإنسانية المرحلة الثانية من تطورها بعد التحول الأول، الذي دخلت به في التاريخ في نهاية العصر الحجري الجديد.. وهذا التحول قد يغير توقعات التاريخ تغييرا تاما بحيث لا يدع مجالا لافتراض (الأفول) إذ في التوقع الجديد لن يكون هـناك أمامنا سوى افتراض الكسوف الكلي، والنهائي الذي لا يمكن من أن تصاغ (نهضة) .. وتلك هـي نتيجة توحيد المشكلة الإنسانية.. هـذا التوحيد الذي أوصل مقدرة الإنسان إلي المستوى العالمي، وهو يتجلى في حياة كل شعب وفي تشكيلاته السياسية، وفي ألوان نشاطه العقلي، والفني، والاجتماعي. فالمقاييس، وطرائق السلوك، والتفكير، لا تكف عن التقارب على محور طنجة - جاكرتا ، ومحور واشنطن - موسكو ) [5] من هـذه التحديات الأولية، تبدو لنا أهمية فكرة عالمية الحضارة كمشروع حضاري، يطلب منه أن ينقل البشرية إلى طور حياتي جديد على الصعيد العقلي والسلوكي. [ ص: 76 ]

        خاصية العلمية

        ومن الخصائص المميزة كذلك للواقع البشري الراهن، خاصية (العلمية) .. وأعني بها أن الحضارة المعاصرة، علمية، يقودها العلم، والعلماء، ولا تتحرك في مواقفها الكلية، والجزئية إلا إذا قدم الخبراء، والمتخصصون الإشارة الخضراء. (فحضارة العلم) تعني الحضارة التي أصبح التوجيه فيها عن طريق العلم ثقافة، أي ميزة سلوكية تابعة لتشكيلها الثقافي. فالعلم مرسم سلوكيا، ويتدخل تلقائيا في كل شئون الحياة والمجتمع. فالعلم هـو القائد للحضارة.. وفي هـذه الحالات تموت الدروشات، ويضمحل الجهل، ويتراجع التكهن الخرص. وعندما يصبح التوجيه بين يدي العلم، تصبح للفكرة قيمة، ولصاحبها رسالة، يعيش من أجلها. وهذه الرسالة في كل الحالات خاضعة لعقيدة الإنسان، وفلسفته في الحياة.. وبشكل عام، تمثل العلمية الطاقة الخلاقة التي فتقت الخيرات المركوزة في البشر، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه من الدقة، والإتقان، واستطاعوا أن يتحكموا في الكثير من سنن الله في الخلق. ( فالعلمية ) هـي الضوء الخافت الذي ينساب بين دروب الجهل، ليتحول إلى نور ساطع ينير طريق السائرين في الكون إن تدبروا، وفقهوا، ووعوا ولكنها قد تتحول إلى مرض عضال تسقط الحضارات العملاقة، وذلك عندما تمسكها الأيدي التي لا تعرف قيمتها.‍‍‍‍‍‍ تماما كما يحدث هـذه الأيام عند أصحاب الحضارة المعاصرة..

        خاصية العملية

        العمل في الحقيقة هـو محرك الطاقة الحيوية للبشر، وإذا انتفى العمل انتفت معه الحضارة البشرية. فالعبادة عمل، وعمران الكون عمل، والتفكير عمل، وإنقاذ الخلق من الظلمات إلى النور عمل، والتعارف بين الناس عمل، والبحث [ ص: 77 ] عن المعاش عمل، ونحن لا نقصد هـنا هـذه القيمة المطلقة للعمل، كشيء فطري تكويني في الخلق، وإنما نعني ( بالعملية) ارتباط الفكر بساحات الأداء البشري المعضل، واتصال المعارف بالتجربة والتطبيق. فالواقع الراهن يؤمن بالحركة العملية، فهو لم يعد شغوفا بالفلسفة النظرية، والعمل هـو الذي يعطي للأفكار قيمتها، وإشعاعها، ويبرهن على عبقرية الجهد الإنساني الواقعية.

        إن استحكام هـذه الخاصية في الحياة العقلية، والثقافية للحضارة المعاصرة، وفي السلوك العام للإنسان، مكنه من امتلاك المنطلق العملي الذي يجعله يربط الفكرة بالواقع، ويربط العمل بوسائله الكفأة بشكل فعال، ومؤثر. ويصل الكيفيات المنهجية بالغايات البشرية. لقد أصبح لكل جهد إنساني مقياس واقعي واضح يحكمه. فالعملية كذلك تعني ( كيفية ارتباط العمل بوسائله ومعانيه، وذلك حتى لا نستسهل أو نستصعب شيئا بغير مقياس يستمد من واقع الوسط الاجتماعي، وما يشتمل عليه من إمكانات) [6] . كما تعني كذلك امتلاك (الضابط الذي يربط بين عمل وهدفه..بين سياسة ووسائلها.. بين ثقافة ومثلها.. بين فكرة وتحقيقها ) [7] .

        خاصية التخصص

        لقد كان لخاصيتي العلمية والعملية، دور بالغ الأثر في طبع الواقع العالمي الراهن بميزة التخصص الدقيق في كل شيء. فعلى صعيد المعرفة مثلا تفرعت المعارف، وتخصصت بشكل لم يكن يتصوره ( دور كايم ) ، وهو يقدم ملاحظاته في موضوع علم الاجتماع، فقد تعب كثيرا في موضوع [ ص: 78 ] التسمية نفسه، واليوم نجد هـذا العلم متفرعا إلى أكثر من سبعين فرعا، كل واحد منها بحاجة إلى وقت كبير جدا لاستيعابه. لقد انتشر المنطق التخصصي في كل تفاصيل حياتنا العامة، والخاصة، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والتعليمية، والتربوية، والإدارية. إنه فيما يتعلق بهذه الفكرة بالذات نتأسف كثيرا لما يحدث في عالمنا الإسلامي عندما نشاهد متخصصين مطلقين يتكلمون في كل العلوم بلا علم ولا دراية، مازالت تراودهم فكرة الموسوعة التي قضي عليها عصر العالمية، والعلمية، والعملية.

        خاصية الواقعية

        نحن كثيرا ما نسمع في ثقافتنا الراهنة أصواتا تذكرنا بعصر الفلسفة الخرافية المشئومة، فنسمع بعضهم يقول: أنت لست واقعيا، وأنت خيالي، وأنت فيلسوف !.. حالم.!. تهيم في الفراغ، وتعيش في جزيرة حي بني يقظان. وإذا سألت لماذا ؟ جاءك الجواب الذي يسقط كل الاعتبارات التي يمكنها أن تدخل في توجيه الواقع إلى الأحسن. فماذا تعني الواقعية في حياتنا المعاصرة؟ إنها باختصار شديد تعني: الحكمة في التعامل مع وقائع الحياة الإنسانية، أي توجيه الأعمال بما يؤدي إلى نجاحها في إنجاز مهامها، بدون خسائر في الأوقات والجهود والطاقات.. إدراكه في حالته القائمة، بدون زيادة ولا نقصان، ومعالجته انطلاقا من طبيعته، وظروفه، ومعطياته..

        إن الواقعية في العقل الحضاري المعاصر، خاصية نابعة من ثقافة العامة، ومن تعامله السلوكي مع الأشياء. كما أنها الوعي التام، والفهم الشامل لشروط، وظروف، ووسائل، ومناهج، وأساليب أداء عمل معين. فهي إعطاء الوقت الكافي لإنضاج الأفكار، وفهم الأحداث، والمتابعة الواعية لحركة المجتمع، [ ص: 79 ] والإدراك المستوعب لإمكاناته، ونقائصه، وقواه.

        خاصية المنهجية

        العمل إذا لم يكن خاضعا لقواعد، وضوابط، ونواظم معيارية، ومعرفية، فإنه لا يسمى منهجيا. فهو هـنا لا يخضع لمنظور استدلالي معين، ولمنطق برهاني منظم، أي لا يصدر عن إطار مرجعي يحكمه، ويوجهه وفق أسس معينة، ولغاية محددة، وبوسيلة مشروعة.

        فالمنهجية خاصية من خصائص الخطاب العالمي القائم. فهي وعي على كيفيات إنجاز عمل ما، وفهم لطريق الوصول إلى غرض مطلوب، وفق ترتيبات واضحة ومنظمة. والعقل الحديث ساهم بقسط وافر في تعميق القيمة المنهجية في السلوك الإنساني الراهن، رغم أن موضوع المنهجية كان موجودا قبل هـذا التاريخ بقرون متطاولة. فكل عمل لا يخضع لمنهجية استدلالية أثبتت صحتها سوف لن يجد مكانه في منطقنا العالمي القائم. وكل إقناع لا يصدر عن توجيه منهجي مؤسس، سوف يرد، فعندما تنعدم الحركة المنهجية في العمل الإنساني يصاب بالعمى، وتظهر فيه لفوضى، وتتملكه الحيرة. فالمنهجية هـي برنامج العمل، وخريطة السير، وروح التوجيه ومنطقه الذي يربطه بالواقع.

        خاصية التقنية والتكنولوجية

        صحيح أن التكنولوجية والتقنية نتاج من منتوجات الوعي البشري في الحقل العلمي، والمعرفي، والعملي والمنهجي.. إلا أنها تمكنت من تحرير موقعها في عالم القرن العشرين كواحدة من خصائص الحضارة القائمة.

        فالحياة البشرية اليوم، مطبوعة بطابع التقنية والتكنولوجية، التي وحدت [ ص: 80 ] القارات، وقلصت زمن الاتصال والتعامل، ورفعت درجة الحوار الثقافي بين الحضارات، بشكل لم يكن يتصوره العقل الإنساني قبل هـذا التاريخ. فقد حلت الآلة محل الجهد البشري، وأصبحت العلاقات الإنسانية متيسرة بوسائل، وأدوات بسيطة في متناول جميع البشر، وغزت التكنولوجية الدقيقة عالم الناس.

        فإذا كان ابن خلدون من قبل قد كتب مؤلفه التاريخي الضخم في أكثر من سبعة مجلدات، وإذا كان معاصرنا أرنولد تويمبي قد أنجز عمله الضخم (دراسة للتاريخ) ، في ما يقرب من سبعة آلاف صفحة وقضى فيه أكثر من أربعين عاما، فإن كتابة هـذا الكم من المعارف أصبح اليوم ممكنا في جهاز بسيط يمكن للإنسان أن يحمله معه، وهكذا دخلت التكنولوجية في تفاصيل حياتنا الخاصة والعامة، ونقلتها إلى طور آخر من أطوار تعاملها مع الحياة والكون والناس، وأخرجتها من طور قتل الأوقات، وتبديد الطاقات إلى مراحل الاقتصاد في الجهد والوقت، وإلى عالم الدقة، والإتقان، والجمال، في العمل الإنساني.

        فالاتصال السلكي واللاسلكي، والحاسوبات الإلكترونية، والأدمغة الصناعية، وأجهزة الذكاء الاصطناعي، والأقمار الصناعية، والتقنيات الاتصالية الحديثة، والمراكب الفضائية، والتكنولوجية العسكرية، والطبية، وكل الأداتية، والتقانية، والألياتية التي نشاهدها في عالم الحضارة المعاصرة هـي نتاج طبيعي (للمنطق التكنولوجي) و (للعقل التقني) الذي خلفته النزعة العالمية، والعلمية، والعملية، والتخصصية، والمنهجية في حياة الناس.

        لقد أعطت ( التكنولوجية ) [8] الحديثة للعقل البشري فرصة التفاعل الإيجابي مع سنن الله في الكون والأنفس، وأمدته ببعض وسائل التسخير المادية التي تتطلب استعمالا أكثر فاعلية لأجهزة التسخير المعنوية: السمع والبصر [ ص: 81 ] والفؤاد والقلب..

        والتكنولوجية اليوم تسير بخطى متسارعة إلى عالم جديد أسماه مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق (زبيغنيو بريجنسكي) بـ ( العصر التكنتروني) .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية