الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        أولا: البعد المقاصدي للمنهج النبوي

        الجهد النبوي بأكمله مبني على مراعاة مقاصد الشارع في الخلق، ونحن في هـذا العنصر، نريد فهم المقاصد كإطار منهجي، كان سمة الجهد النبوي خصوصا، وكضابط حاكم على الحركة الاجتهادية الإسلامية عموما.

        ملاحظة عن النظام المقاصدي

        فقصد الشارع قد انصرف ابتداءا إلى درء المضرات على الناس، وجلب المسرات الدنيوية، والأخروية لهم. فالنظام المقاصدي ركب أصلا من أجل تحصيل مقصد كلي عظيم، يفتقر إليه الوجود البشري بفطرته التي فطره الله عليها، وهو (مقصد الاستخلاف) الذي تنبني عليه كل المقاصد الأخرى، وتصدر عنه منظومة المصالح البشرية. يقول الإمام الشاطبي رحمه الله في موافقاته:

        لما انبنت الشريعة على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من الضروريات والحاجيات ، والتحسينيات ، وكانت هـذه الوجوه مبثوثة، في أبواب الشريعة، وأدلتها غير مختصة بمحل، ولا بباب، ولا بقاعدة دون قاعدة، كان النظر الشرعي فيها أيضا عاما لا يختص بجزئية دون أخرى، لأنها كليات تقضي على كل جزئي تحتها "....." فإذا وجدنا أن الحفاظ على الدين، أو النفس، أو النسل، أو المال، أو العقل، في الضروريات معتبر شرعا، ووجدنا ذلك عند استقراء [ ص: 46 ] جزئيات الأدلة، حصل لنا القطع بحفظ ذلك وأنه المعتبر حيثما وجدناه [1] مقصد الاستخلاف

        ففي كلية الاستخلاف التي هـي أصل الكليات السابقة، نجد مصالح الفرد، ومصالح المجتمع، كما نجد مصالح الإنسانية.. فحفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسل، أمور مطلوبة شرعا.. ولكن كلية الاستخلاف الكبرى التي بعث الخطاب الإلهي من أجل تحقيقها، لا تقتصر على القضايا الخمسة المذكورة في معظم كتب الأصول، ولكنها تتعدى لتنبه إلى قضية أخرى في غاية الأهمية، وسوف لن تتحقق مصالح العباد على الوجه المطلوب إذا لم تراع. وهذا معناه أن النظام المقاصدي القائم، يحتمل إضافة كليات، يمكن أن تكون مما دل الشرع على اعتبارها، وجاء أصلا للمحافظة عليها، وفي هـذا يقول ابن تيمية - رحمه الله - عن علماء الأصول المشتغلين بفكرة المقاصد: (... رأوا أن المصلحة نوعان: أخروية ودنيوية، جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس، وتهذيب الأخلاق، من الحكم، وجعلوا الدنيوية: ما تضمن حفظ الدماء، والأموال، والفروج، والعقول، والدين الظاهر، وأعرضوا عن العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وأحوال القلوب، وأعمالها: كمحبة الله، وخشيته، وإخلاص الدين له، والتوكل، والرجاء لرحمته، ودعائه، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة، وكذلك فيما شرعه من الوفاء من العهود، وصلة الأرحام، وحقوق المماليك، والجيران، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وغير ذلك مما أمر به ونهى عنه : حفظا للأحوال السنية، وتهذيب الأخلاق، ويتبين أن هـذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من مصالح) [2] [ ص: 47 ]

        إن ملاحظة شيخ الإسلام تبحث في صميم (النظام المقاصدي) [3] وكأنه يريد أن ينبه على ضرورة إعادة قراءة مقاصد الشريعة، ومحاولة إدراج أهداف أخرى دل الشرع على اعتبارها، حيث رأى أنه من الضروري إلحاقها بالكليات السابقة.. وسواء أكان ما اقترحه من مقاصد يمكن أن يشكل كلية جديدة، تدرج في عداد الكليات الموجودة، أو كان داخلا أصلا في الكليات القائمة، ولكن الاشتعال بها كان قليلا فوجب التنبيه عليها، فإن الأمر الذي يهمنا هـنا هـو طلب الاجتهاد، والدعوة إليه في قضية تبدو أنها اكتملت حلقتها.. وحتى الإمام الشاطبي الذي أدار البناء الأصولي بأكمله على مقاصد الشريعة، ركز على نفس الكليات الموجودة من قبل.

        كلية الكون

        إننا ونحن نستقبل العصر العالمي بكل ظروفه، وموجباته، نلاحظ بأن الإنسانية بحاجة إلى فهم أعمق لمقاصد الشارع في الخلق، تلك المقاصد التي إذا لم تعتبر في حياة الناس، فإن ذلك سيفتح عليهم مسالك المضرات، والمشقات، والأهواء التي لا تحمد عقباها في الدارين.

        ومن بين المقاصد الكلية الضرورية التي دل الشرع على حفظها واعتبارها (مقصد المحافظة على الكون) بمفهومه الواسع، الذي يشتمل على كل ما سخره الله لخلقه من بحار، وأرض، وجبال، ومعادن، وطبيعة.. وآيات التسخير في القرآن كثيرة جدا. فما يحصل اليوم في حياة الناس من جراء التفاعل غير الصحيح مع الكون، وما تعانيه البشرية من تلوثات، ومجاعات، وتهديد بنفاد المسخرات الإلهية - حسب البناء الفلسفي للنظرية الاقتصادية المادية - إنما يعبر [ ص: 48 ] عن جهل الناس لمقاصد الشارع الحكيم، التي دلت على حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل، كما دلت على حفظ الكون، فهذه الكلية الأخيرة تؤدي غرضين في موضوع الاستخلاف:

        - التسخير المادي وما يشتمل عليه من خيرات هـي قوام العمران البشري، والبناء الحضاري في جانبه المدني والمعاشي..

        - التسخير السنني وما يشتمل عليه من آيات، وسنن، وقوانين دالة على أنه الحق تبارك وتعالى.. قال عز وجل : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) (فصلت : 53) . فللكون دور أساسي وضروري في هـداية الناس إلى الحق تبارك وتعالى. والناس عندما لا يحافظون على الكون ولا يسخرونه كما أمر تبارك وتعالى، فإنهم سيهلكون، وما تلوث البيئة الحالي، الذي يهدد بهلاك النسل، إلا مظهر من المظاهر الدالة على أزمة عدم المحافظة على كلية الكون، التي دل الشرع على اعتبارها، إذ بدون ذلك ستضيع كل مصالح الناس الخاصة بحياتهم المادية، والمعنوية.

        وهناك توجيه نبوي عظيم الدلالـة في هـذا الميدان، قل ما يدركه الباحثون وهو قولـه صلى الله عليه وسلم : ( إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها ) [4] إن مقاصد الشارع في الكتاب، والكون والأنفس، وضعت لتحقيق مصالح العباد في الدارين، وبها سيحصل الاستخلاف الذي وجد البشر من أجله أصلا، كما أنها تمثل أصلا، منهجا تغييريا مستقيما على الطريقة.

        المنهج النبوي كإطار عملي للمقاصد


        من استقراء السنة النبوية يتضح بجلاء البعد المقاصدي في السيرة [ ص: 49 ] النبوية، فكل ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم يقع في دوائر التيسير، والرحمة، والعدل، ورفع الآصار والأغلال، ويهدف إلى حفظ مصالح الخلق المتعلقة بحياتهم الفردية، والجماعية، والإنسانية.. وحياتهم المعاشية، والروحية.. فمنهجية الرسول عليه الصلاة والسلام المضمنة في أقواله، وأفعاله، وتقريراته، وأخلاقه، وشمائله، مصبوغة بالمنطق المقاصدي الهادف.

        فكل جهده يجب أن يدرس في إطار مقاصد الشارع.. فاعتماده على منهج التربية، والتكوين، والتدريب على الاجتهاد، والتشاور، والتفكير، والتبيين، والسير في الأرض، والجهاد، إنما كانت غايته الأساسية توفير الجو والوسط الذي تنمو فيه (العقلية المقاصدية) المتدبرة لخطاب الله، والتي تسبر أعماق البلاغ الرباني المبين، وتحمل رسالة القول الثقيل.. حيث كان عليه الصلاة والسلام (مرجعية مقاصدية) توجه الناس إلى الأسرار، والمقاصد التي حملها التكليف الرباني للخلق.

        فعندما نقوم بدراسة سنن نبينا عليه الصلاة والسلام ، وأحاديثه التي حوت أقواله، وأفعاله، وتقريراته، وسائر أعماله، علينا أن نلاحظ المسحة المقاصدية، التي لم تكن علما صناعيا ينكب فيه عليه الصلاة والسلام مع صحابته الكرام على طاولات البحث، والدرس، والتحصيل المدرسي، بل كانت سلوكا وروحا، تسري في عروق الناس، وتغذي جنين الحضارة برسالة الإنسان في الأرض، وتريه حقيقة وجود الكتاب، والكون، والناس، وتبين له أن كل شيء وجد ليحقق مصالح الناس في الدارين.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية