الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        من أجل قراءة أخرى للسنة

        وبعبارة أخرى نريد أن نقوم بقراءة جديدة للسنة النبوية المطهرة تنطلق من قراءتين سابقتين:

        - قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم الأخلاقية، والسلوكية القاصدة إلى وضع أسس البناء الحضاري العالمي، الذي أصبح مصدرا أساسيا لفهم القرآن، وتنزيله إلى أرض الواقع (قراءة الوحي) . [ ص: 83 ]

        - وقراءة بشرية علمائية تمثلت في البناء النظري للنموذج النبوي، وتدوينه، وتسجيله في كتب السنة، والحديث، والفقه، والأصول، والعقيدة، والتاريخ، والجغرافيا، والسياسة الشرعية.. إلخ (قراءة بالعقل) . مع العلم بأن القراءة الثانية مستخلصة من التفاعل بين العقل الإسلامي والقراءة الأولى (قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم ) ، وذلك في ضوء المذهبية التوحيدية. وهذا معناه أن غياب القراءة الأولى، يعني أن أي قراءة لاحقة إلى قيام الساعة مرفوضة في حياة الأمة، وأن أي بناء حضاري لا يقوم عليها فهو رد، وغير مقبول مهما كانت نتائجه. فالقراءة النبوية للوحي، وتنزيله إلى أرض الواقع حجة على كل التطور العقلي، والمنهجي الذي وصلته، وستصله البشرية في مستقبل أيامها، وبعباة أكثر دقة: أن كل الانتاج العقلي، والفكري الراهن، مطلوب للمثول بين يدي معيار الوحي الإلهي، الذي تمثل السنة النبوية المطهرة إطاره العملي، الذي أدى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة البلاغ المبين، كما أمره الله سبحانه وتعالى .

        فالقراءة الجديدة محظوظة بشكل عظيم لأنها تقف على خبرة الجيل النبوي الأول، الذي كان في مرحلة التأسيس للنموذج الحضاري التوحيدي، كما تقف على تجربة الجيل الإسلامي الثاني (عصر التدوين ثم العصور التي تلته وساهمت في مواجهة الحملات الشرسة ضد السنة النبوية) الذي كان في جهاد متواصل للحفاظ على الحضارة الإسلامية، ووراثتها بشكل غير مخل بغاياتها، وحقائقها التاريخية.

        فهذه القراءة التي ظهرت منذ بوادر الصحوة الإسلامية الحديثة مطالبة بالوعي العميق على القراءتين السابقتين، بالإضافة إلى وعيها على أمرين مهمين:

        - طبيعة القراءة الجديدة للسنة النبوية المطهرة، باعتبارها مصدرا لبناء حضاري جديد، بكل ما يتطلبه هـذا العمل من فهم للعصر العالمي، وشروط العيش [ ص: 84 ] فيه، والتعامل معه من أجل تغييره لينسجم مع خطاب الشارع الحكيم، ويحقق مقاصده العليا في الخلق.

        - منهج وكيفيات، ومستويات هـذه القراءة على الصعيدين النظري والعملي. فهذان هـما العملان الحاسمان اللذان يستحقان العناية الكافية من قبل حركة التغيير الإسلامي. إذ عليها أن تثبت فيهما بشكل منهجي. وعندما يتم هـذا التلاحم، والتفاعل بين العقل الإسلامي، والسنة النبوية المطهرة في ضوء المعيار التوحيدي، فستظهر للناس القدرة المذهلة للمنهج النبوي في تركيب حضارة جديدة انطلاقا من تغيير الإنسان، والثقافة، والمجتمع، وإعادة ضبط حركة هـذه العناصر الأساسية في البناء الحضاري.

        فالمنهج النبوي سوف لن يفهم بالشكل المطلوب، ما لم يقرأ كقوانين اجتماعية، وسنن تاريخية، ومسالك أخلاقية، حكمت حركة التغيير الحضاري الإسلامي الأول الذي أنجز من خلاله الرسول صلى الله عليه وسلم بناءا حضاريا شامخا، وحقق به عملية (أسلمة حضارية شاملة) للمجتمع الجاهلي، ومكنه من تحرير مكانه في عالم الحضارات. أعني أن المنهج النبوي نفسه يمثل إطارا - ساحة تاريخية تطبيقية - خصبا لدراسة السنن الإلهية الحاكمة للجهد البشري. ولهذا فتطبيق (منهج السير في الأرض) [1] في دراسته، مجد جدا، لأنه سيتم عن طريق منهجيات (النظر) التي تسعى إلى كشف سنن الهداية الربانية، وقوانين الفطرة الإلهية التي فطر عليها الناس. فالمنهج النبوي، ساحة للتعامل مع عالم الأسباب، وعالم سنن العبادة، والإعمار، والإنقاذ، والتعارف، التي ستوصل الناس إلى تحقيق غاياتهم الدنيوية المتمثلة في (الاستخلاف والمحافظة على الكون) .. [ ص: 85 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية