الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        تمهيد

        الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وتابعيه بإحسان إلى يوم الدين.. وبعد..

        فلقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان، وكرمه بفضله، وأمده من علمه، وجعل له عقلا، وسمعا، وبصرا، وفؤادا، وسخر له الأرض ذلولا، والكون خدوما، ووهبه قوى التعقل، والتدبر، والنظر، وأعطاه حياة ووقتا. ثم كلفه برسالة الاستخلاف في الأرض. ولكن الإنسان وهو يتفاعل مع الحياة ومشكلاتها، والكون وأسراره، والتاريخ وسننه، بحاجة إلى مرشد يبصره بطريق الحق، ونور يدله على معالم الطريق، إذ العقل البشري لا يقوى وحده على إدراك سنن الخير، وسنن الشر، ولا يقدر بوعيه المحدود على فهم خبايا الكون، والحياة، والتاريخ، والوجود، ولهذا فقد وهبه الله خيرا آخر، وفضلا عظيما من أفضاله ذلك هـو (علم النبوة) الذي انبثقت عنه مناهج الهداية التي حملها الوحي الأعلى إلى الأمم والشعوب كافة، عن طريق الأنبياء، والرسل صلوات الله عليهم أجمعين. إذن قد أمد الله سبحانه وتعالى الإنسان بمنهاج قويم، ومسلك أمين، يدله على سبيل الفوز المبين. ثم شاءت إرادة المولى تبارك وتعالى، أن يختم علم النبوة بالرسالة المحمدية التي أعطت للاستخلاف مضمونا عالميا شموليا، وبعدا دعويا إنسانيا هـاديا.

        وفي الحركة الإسلامية الخاتمة، تمكن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم من بناء حضارة توحيدية سامقة، واستطاع أن يقدم للبشرية جمعاء، نموذجا فطريا لتغيير حضاري إنساني، كون به إنسانا استخلافيا، وثقافة إنسانية، ومجتمعا [ ص: 37 ] منسجما، وتاريخا عالميا، وحضارة متوازنة. والنبي صلى الله عليه وسلم وهو يواجه ظروف بناء الحضارة الإسلامية، كان منضبطا بمنهج تغييري، يستمد وجوده، ووعيه، وأصوله من معيار الوحي الإلهي.

        ولما كان أي بناء حضاري إنساني، مفتقرا في حدوثه إلى منهج تغييري يقوده نحو غاياته، ومقاصده، بخطوات منظمة وسليمة، فقد استدعت العملية التغييرية النبوية وجود ذلك المنهج، والمنهج النبوي في البناء الاجتماعي، منهج فطري متوافق مع سنن الله في الخلق، ومنسجم مع قوانين الدعوات الإنسانية.

        من هـذه الأهمية العظيمة للمنهج النبوي، وقدرته على تركيب حضارة عالمية نموذجية، تستجيب لقانون الفطرة العالمي، برزت الضرورة الملحة لدراسته من وجهة نظر (حضارية سننية) تنفذ إلى محاولة وعي المنهج النبوي، بغرض استدعائه، ليساهم بقدرته الفائقة في حل معضلات الإنسان المعاصر وهو يستقبل عصر العالمية.

        ففي هـذا الجهد المتواضع جدا، حاولت أن أنبه إلى أهمية المنهج النبوي في البناء الحضاري الجديد، وذلك لما للوعي بهذا المنهج، من فقه بصير، وإدراك عميق، وفهم سديد لسنن الدعوات، وقوانين النهضات، ومناهج البلاغات، ومقاصد الديانات، وأخلاق السياسات، وحاجات النفسيات، ومتطلبات العقليات، واستعدادات الشخصيات، وثقافات الجماعات، وسلوكات الأمم الناجيات، وشرائع الرحمة الميسرات، ففي المنهج النبوي، سبل لهداية الناس إلى الأعمال الصالحات، والأقوال الصائبات، والعبادات الصحيحات، والمعاملات النافعات، والمواقف المرضيات. [ ص: 38 ]

        لقد قسمت هـذا الكتاب إلى تمهيد، وثلاثة فصول، وخاتمة. بسطت الحديث في الفصل الأول، عن الإطار المنهجي العام، الذي يجب أن يدرس فيه المنهج النبوي، مركزا على أهمية النظرة الكلية إلى السنة النبوية، وإلى طبيعتها الحضارية، مع إبراز بعض أبعاد المنهج النبوي، كالبعد المقاصدي، والبلاغي الدعوي، والسنني، وتدعيمها بنماذج، ودروس من الفقه النبوي العملي.

        أما الفصل الثاني، فقد خصص لمعالجة قدرة المنهج النبوي على فهم، واستيعاب الظاهرة التغييرية في العصر العالمي، مع تحديد أسباب هـذه القدرة، ومحاولة اكتشاف منطقية السنة النبوية، ومنهجها الاستدلالي. وبعد ذلك حاولت تحديد بعض الخصائص التي تطبع الواقع العالمي الراهن، مع إعطاء نموذج تحليلي لقدرة المنهج النبوي على حل المأزق العالمي الراهن، ومحاولة تحديد مفهوم إسلامي للتغيير الحضاري، بجانب الإشارة إلى بعض الفهوم المزيفة للتغيير.

        أما في الفصل الثالث، فقد أثرت قضية من أهم قضايا الفكر الإسلامي، وهي المنهج النبوي وقدرته على تركيب حضارة في العصر العالمي، وهنا تطرق التحليل إلى بعض القوانين التي تحكم التغيير الاجتماعي، ومنها قوانين التوجيه، وفلسفة الانطلاق، والثقافة. كما تم التنبيه إلى منهج الترشيد النبوي للحركة التغييرية، وإلى محاولة استخراج معالم المنهج النبوي، وطبيعة الإنسان الذي يريد هـذا المنهج تشكيله، وتقديم نموذج لإنسان الاستخلاف الذي بناه رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم . ثم ختمت البحث ببعض الملاحظات المهمة.

        لقد تم هـذا العمل المتواضع في قسمه الأول ( المقدمات) ، بحول الله [ ص: 39 ] وتوفيقه، وإنني لسعيد جدا أن أشير إلى تلك الجهود التي بذلها أخي الأستاذ مصطفى عبد اللطيف حللي ، في سبيل إنجاز هـذا الجهد البسيط، الذي استفاد كثيرا من نصائح، وتوجيهات أخي العزيز الدكتور إبراهيم محمد زين ، الذي كان فعلا مثقفا مسلما متميزا باهتمامه بقضايا الأمة، حريصا على مستقبلها، عاملا من أجل نهضتها. فقد عرضت عليه فكرة الكتاب في البداية، فرحب بها، وأبدى رأيه الذي أقدره كثيرا، ثم بعد أن أنجزته بحول الله وقوته، أطلعته عليه مخطوطا، فطلب مني أن أقوم بنشره بسرعة. كما سعدت كثيرا بترحيب البروفيسور الدكتور عبد المجيد مكين المفكر السيلاني المسلم بفكرة هـذا الكتاب، حيث أفدت كثيرا من أفكاره، وتوجيهاته القيمة. فجزى الله سبحانه وتعالى كل من ساهم في إنجاز هـذا العمل، من قريب أو بعيد.

        كوالالمبور - ماليزيا

        15/ديسمبر 1993م
        [ ص: 40 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية