الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        دروس من الفقه النبوي

        والذي يتعمق في دراسة الجانب التطبيقي للإسلام، من خلال السيرة النبوية الشريفة، يرى كيف وفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في مواجهة مشكلات المجتمع الجاهلي، وكيف كان يتعامل مع النفوس البشرية المتباينة: فكرا، ومزاجا ومكانة. وكيف كان يتدرج بها من مرحلة إلى مرحلة، بصبر وأناة، وحكمة، حتى نقلها من الجاهلية إلى الإسلام.

        لقد كان من أبرز خصائص، وسمـات المنهج النبوي: (التغيير المتدرج حسب الأولويات) كما أفصحت عن ذلك السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، وهي تصف منهجية التغيير الإسلامي، التي كانت وراء نجاح الدعوة الإسلامية: " إنما نزل أول ما نزل منه - أي القرآن - سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو كان أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا لا ندع الزنا أبدا. " (رواه البخاري) .

        والمسلم اليوم عندما يتأمل عمل النبي صلى الله عليه وسلم

        في التربية والحركة، يجد أن من بين أهم المفاتيح التي فتح بها مغاليق النفس البشرية، وغير بها أوضاع الحياة الاجتمـاعية: (قدرته الفائقة على فهم النفوس البشرية، والأوضاع الاجتماعية وإدراك المؤثرات النفسية، والبيئية التي يخضع لها الناس، والتعامل معها على ضوء ذلك الفهم الشمولي العميق) الذي كان خير معين له على طرح الحلول [ ص: 62 ] الجذرية، للمشكلات الإنسانية، النفسية، والاجتماعية، الفردية، والجماعية.

        ولقد أعانه على امتلاك تلك القدرة في فهم النفوس البشرية، والأوضاع الاجتماعية، وإدراك المؤثرات النفسية، والبيئية أمران أساسيان هـما:

        - الوحي الأعلى.

        - والاستعداد الذاتي.

        فالوحي الأعلى كان يطلعه به الله سبحانه وتعالى سواء عن طريق جبريل سبحانه وتعالى مباشرة، أو عن طريق الإلهام في بعض الأحيان عندما تقصر وسائله الخاصة، في التحري، والتدقيق، ويبدو أن أمرا مهما سيفوته، أو خطرا كبيرا سيلحقه، كما في تآمر بني النضير على قتله.. وكما في قصة حاطب بن أبي بلتعه .. وكما في قصة فضاله الذي جاء يريد قتله، وغيرها من الوقائع التي يعلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي، فيأخذ حذره منها، ويحتاط لها.

        والاستعداد الذاتي: حيث كان عليه الصلاة والسلام يهتم بمعرفة كل صغيرة وكبيرة في المجتمع، الذي يكون فيه، ويكلف أصحابه بإبلاغه ما يصلهم من معلومات وأخبار عن أحوال الناس، وأوضاع المجتمع.

        قال القاضي عياض فيما روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما

        :.. فيتشاغل بهم - أي الناس - ويشغلهم فيما يصلحهم والأمة، ومن مسألته، عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي لهم، ويقول: ( ليبلغ الشاهد منكم الغائب ) ، [ ص: 63 ] يكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم، من غير أن يطوي عن أحد بشره وخلقه، ويتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس) .

        (ويرسل رجاله المقتدرين إلى الجهات التي يريد معرفة حالها، فيأتونه بالأخبار التي يستعين بها على رسم خططه، وانفاذ أمره) . ومواجهة أعباء ومسئوليات الدعوة، والحدب عليها، حتى لا يلحقها الأذى.

        فخبرته صلى الله عليه وسلم بالنفوس والأوضاع البشرية، وحرصه على متابعة مجريات الأحداث، والإشراف عليها ولو من بعيد، ساعده كثيرا في ضمان قدر هـائل من الفاعلية في حركته، لأنها كانت (تتم في الوقت المناسب، وبالكيفية المناسبة) . فلم يكن تستفزه الأحداث، وتضطره إلى المغامرة - رغم كثرتها وإلحاحها - بل كان يتحرك بخطى مدروسة، يستلهم فيها واقع الأفراد والمجتمع والدعوة، وكما تجمعت لديه معطياته عن طريق الوحي الأعلى، والتحرك الذاتي. [ ص: 64 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية