الثالثة : إذا ، نظر ، أيقتصر عليه أم يضيفه إلى مجهول أم إلى معلوم ؟ فإن اقتصر عليه ، أو أضافه إلى مجهول بأن قال : هو لرجل لا أعرفه ، أو أسميه ، فثلاثة أوجه ، أحدهما : يسلم المال إلى المدعي ، إذ لا مزاحم له ، والثاني : تنصرف الخصومة عنه ، وينتزع الحاكم المال من يده ، فإن أقام المدعي بينة على الاستحقاق ، أخذه ، وإلا حفظه إلى أن يظهر مالكه ، وأصحهما : لا ينصرف ، ولا ينتزع المال من يده ، فعلى هذا إن أقر بعد ذلك لمعين قبل ، وانصرفت الخصومة إلى ذلك [ ص: 24 ] المعين ، وإلا فيقيم المدعي البينة عليه أو يحلفه ، وهل يمكن من أن يعود ، فيدعيه لنفسه ؟ وجهان . ولو قال في الجواب : نصفه لي ، ولا أدري لمن النصف الآخر ، ففي النصف الآخر الأوجه الثلاثة ، وأما إذا أضافه إلى معلوم ، فالمضاف إليه ضربان ، أحدهما : من تتعذر مخاصمته ، وتحليفه بأن قال : هو وقف على الفقراء ، أو على المسجد الفلاني ، أو على ابني الطفل ، أو هو ملك له ، فالذي قطع به ادعى عقارا أو منقولا على إنسان ، وقال المدعى عليه : ليس هو لي والشيخ الغزالي أبو الفرج أن الخصومة تنصرف عنه ، ولا سبيل إلى تحليف الولي ولا طفله ، ولا تغني إلا البينة . قال أبو الفرج : وإذا قضى له القاضي بالبينة كتب صورة الحال في السجل ، ليكون الطفل على حجته إذا بلغ ، وقال البغوي : إذا قال : هو لابني الطفل ، أو وقف عليه ، لم تسقط الدعوى ، فإن أقام بينة أخذه وإلا حلف المدعى عليه : أنه لا يلزمه تسليمه إليه إذا كان هو قيم الطفل .
قلت : اختار في " المحرر " قول البغوي . والله أعلم .
الضرب الثاني : من لا تتعذر مخاصمته وتحليفه ، كشخص معين ، وهو نوعان : حاضر في البلد ، وغائب ، فالحاضر يراجع ، فإن صدق المدعى عليه انصرفت الخصومة إليه ، وإن كذبه فأربعة أوجه الثلاثة السابقة في الإقرار ، ورابعة حكاه ابن الصباغ أنه يقال للمدعى عليه : ادعه لنفسك ، فتكون الخصم ، أو لمن يصدقك ، فيكون هو الخصم ، فإن امتنعت ، جعلناك ناكلا وحلفنا المدعي .
النوع الثاني : الغائب ، فإذا أضاف المدعي إلى غائب ، ففي انصراف الخصومة عنه أوجه ، أصحها - وبه قال الأكثرون - ينصرف ، والثاني : لا ، والثالث : إن قال : ليس لي ، وإنما هو لفلان ، فلا ، [ ص: 25 ] فإن قلنا : لا ينصرف ، نظر إن لم يكن للمدعي بينة ، فله تحليف المدعى عليه على أنه لا يلزمه تسليمه إليه ، فإن نكل حلف المدعي ، وأخذ المال من يده ، ثم إذا عاد الغائب ، وصدق المقر ، رد المال عليه بلا حجة ؛ لأن اليد له بإقرار صاحب اليد ، ثم يستأنف المدعي الخصومة معه ، وإن أقام المدعي بينة على الحاضر ، أخذ المال من يده أيضا ، وهل هو قضاء على الحاضر الذي تجري الخصومة معه ، أم على الغائب لأن المال بمقتضى الإقرار له ؟ وجهان ، أصحهما : الأول ، ولا يحتاج المدعي مع البينة إلى اليمين ، ويثبت القاضي في السجل أنه قضى له بالبينة بعدما أقر المدعى عليه أنه لفلان الغائب ، ليكون الغائب على حجته ، وإذا عاد ، وأقام البينة ، قضى له لترجح جانبه باليد ، وإن لم يقمها ، أقر المال في يد المدعي ، فإن التمس من القاضي أن يزيد في السجل أن الغائب قدم ، ولم يأت ببينة ، أجابه إليه ، وإن قلنا : تنصرف الخصومة عنه ، فإن لم يكن للمدعي بينة ، وقف الأمر إلى أن يحضر الغائب ، وإن كانت له بينة ، قضي له بالمال ، وهل هو قضاء على الغائب ، ويحتاج معه إلى اليمين ، أم على الحاضر الذي تجري الخصومة معه ، فلا يحتاج إليها ؟ وجهان ، رجح العراقيون الثاني ، ولكن الأول أقوى وأليق بالوجه المفرع عليه ، واختاره الإمام والروياني ، هذا كله إذا لم يقم المدعى عليه بينة أن المال للغائب ، فإن أقامها ، نظر إن ادعى أنه وكيل من جهة الغائب ، وأثبت الوكالة فبينته على أن المال للغائب مسموعة مرجحة على بينة المدعي . وإن لم يثبت الوكالة ، فذكر الإمام والغزالي فيه ثلاثة أوجه ، أصحها : لا تسمع بينته ، وبه قال الشيخ والغزالي أبو محمد ؛ لأنه ليس بمالك ولا نائب ، فعلى هذا الحكم كما لو لم يقم بينة . والثاني : تسمع ، والثالث : إن اقتصرت البينة على أنه لفلان الغائب ، لم تسمع ، وإن تعرضت مع ذلك لكونه في يد المدعى [ ص: 26 ] عليه بعارية ، أو غيرها ، سمعت ، فإن لم يسمعها فادعى لنفسه حقا لازما ، كرهن وإجارة ، وتعرضت البينة لذلك ، ففي السماع وجهان . وإذا سمعنا بينته لصرف اليمين عنه ، حكم للمدعي ببينته ، فإن رجع الغائب ، وأعاد البينة ، قدمت بينته ، وإن سمعناها لعلقة الإجارة والرهن ، فهل تقدم هذه البينة ، أم بينة المدعي ؟ وجهان ، أصحهما : تقديم بينة المدعي ، ويكون فائدة بينته صرف اليمين عنه ، هذا ما ذكره الإمام ، والذي يفتى به - وهو المفهوم من كلام الأصحاب - أن المدعي إذا أضاف المدعى عليه إلى الغائب خصومة معه ، وأخرى مع الغائب ، فإذا أقام البينة ، انصرفت الخصومة عنه لا محالة ، ولا يجيء فيه الوجهان المذكوران فيما لو اقتصر على الإقرار للغائب ، وبنوا على انصراف الخصومة عنه أن المدعي لو أقام البينة والحالة هذه ، فلا بد له من اليمين مع البينة ، والقضاء قضاء على غائب بلا خلاف ، وهي بالإضافة إلى الغائب غير مسموعة ، فلا يحكم للغائب بالملك بالبينة التي أقامها الحاضر على أنه للغائب ، فإن تعرض الشهود مع ذلك لكونه في رهن الحاضر ، وإجارته ، فوجهان ، أحدهما : تسمع هذه البينة للغائب أيضا ، وترجح بينته على بينة المدعي ، لقوتها باليد ، وأصحهما : لا تسمع ، فعلى هذا تعمل بينة المدعي . والغزالي
فرع
متى حكمنا بانصراف الخصومة عن المدعى عليه بإقراره لحاضر أو لغائب أو مجهول على وجه ، فهل للمدعي تحليفه ؟ قولان بناء على أنه لو أقر له بعد إقراره لغيره ، هل يغرم القيمة ، وفيه خلاف سبق في الإقرار ، إن قلنا : نعم ، حلفه ، فلعله يقر فيغرم القيمة ، وإن قلنا : لا ، فإن قلنا : النكول ورد اليمين ، كالإقرار ، لم يحلفه ، وإن قلنا : كالبينة [ ص: 27 ] حلفه ؛ لأنه قد ينكل ، فيحلف المدعي ، ويأخذ القيمة ، وكأن العين تالفة . وهل يسترد العين من المقر له وفاء بتنزيله منزلة البينة ؟ وإذا أوجبنا القيمة ، وأخذها بإقرار المدعى عليه ثانيا ، أو بيمين المدعي بعد نكوله ، ثم سلمت له العين ببينة ، أو يمينه بعد نكول المقر له ، لزمه رد القيمة ؛ لأنه أخذها للحيلولة وقد زالت .
فرع
ادعى أن هذه الدار وقف علي ، وقال من هي في يده : هي ملك لفلان ، وصدقه المقر له ، انتقلت الخصومة إليه ، وليس له طلب القيمة من المقر ؛ لأنه يدعي الوقف ، ولا يعتاض عنه ، كذا قاله البغوي . وكان لا يبعد طلب القيمة ، لأن الوقف يضمن بالقيمة عند الإتلاف والحيلولة في الحال كالإتلاف . ولو رجع الغائب وكذب المدعى عليه في إقراره ، فالحكم كما سبق فيمن أضاف إلى جاحد ، فكذبه ، ولو أقام المقر له الحاضر أو الغائب بعد الرجوع بينة على الملك ، لم يكن للمدعي تحليف المقر ليغرمه ؛ لأن الملك استقر بالبينة ، وخرج الإقرار عن أن تكون الحيلولة به .