[ ص: 3 ] كتاب الدعوى والبينات
فيه سبعة أبواب ؛ لأن الدعوى تدور على خمسة أشياء :
الدعوى وجوابها ، واليمين ، والبينة والنكول ، فهذه خمسة ، والسادس في مسائل تتعلق بهذه الأصول ، والسابع في دعوى النسب ، وإلحاق القائف .
الأول في الدعوى ، وفيه مسائل :
إحداها في أن المستحق متى يحتاج إلى المرافعة والدعوى ، كالحق إذا كان عقوبة كالقصاص ، وحد القذف ، اشترط رفعه إلى القاضي ، لعظم خطره ، وإن كان مالا ، فهو عين ، أو دين ، فإن كان عينا فإن قدر على استردادها من غير تحريك فتنة أشغل به ، وإلا فلا بد من الرفع .
وأما الدين فإن كان من عليه مقرا غير ممتنع من الأداء طالبه ليؤدي ، وليس له أن يأخذ شيئا من ماله ؛ لأن الخيار في تعيين المال المدفوع إلى من عليه ، فإن خالف وأخذ شيئا من ماله لزمه رده ، فإن تلف عنده وجب ضمانه ، فإن اتفقا جاء خلاف التقاص . وإن لم يكن كذلك ، فإما أن يمكن تحصيل منه بالقاضي ، وإما أن لا يمكن ، فإن لم يمكن بأن كان منكرا ، ولا بينة لصاحب الحق ، فله أن يأخذ جنس حقه من ماله إن ظفر به ، ولا يأخذ غير الجنس مع ظفره بالجنس ، وفي " التهذيب " وجه أنه يجوز وهو ضعيف ، فإن لم يجد إلا غير الجنس ، جاز الأخذ على المذهب ، وبه قطع الجمهور .
وقيل : قولان ، وإن أمكن تحصيل الحق بالقاضي بأن كان مقرا مماطلا ، أو منكرا عليه وله بينة ، أو كان يرجو إقراره لو [ ص: 4 ] حضر عند القاضي وعرض عليه اليمين ، فهل يستقل بالأخذ أم يجب الرفع إلى القاضي ؟
وجهان ، أصحهما جواز الاستقلال ، قاله أبو إسحاق ، ، وصححه القاضيان وابن أبي هريرة أبو الطيب ، للحديث الصحيح في قصة والروياني هند ، ولأن في المرافعة مشقة ومؤنة ، وتضييع زمان .
ومتى جاز للمستحق الأخذ ، فلم يصل إلى المال إلا بكسر الباب ، ونقب الجدار ، جاز له ذلك ، ولا يضمن ما فوته ، كمن لم يقدر على دفع الصائل إلا بإتلاف ماله ، فأتلفه لا يضمن ، وقيل : يضمن وهو شاذ ، ثم إن كان المأخوذ من جنس الحق فله تملكه ، وإن كان من غير جنسه ، لم يكن له التملك .
وقيل : يتملك قدر حقه ، ويستقل بالمعاوضة للضرورة ، كما يستقل بالتعيين عند أخذه الجنس ، والصحيح الأول ، ثم هل يرفعه إلى القاضي ليبيعه ، أم يستقل ببيعه ؟ وجهان ، ويقال : قولان ، أصحهما عند الجمهور الاستقلال ، هذا إن كان القاضي جاهلا بالحال ، ولا بينة للآخذ ، فإن كان القاضي عالما ، فالمذهب أنه لا يبيعه إلا بإذنه ، فإن أوجبنا الرفع إلى القاضي ، فهل للقاضي أن يأذن له في بيعه ، أو يفوضه إلى غيره ؟ وجهان ، أصحهما الأول .
وفي طريقة عند الرفع وجهان ، أحدهما : يبيعه القاضي بعد إقامة البينة على استحقاق المال ، وهذا يبطل فائدة تجويز البيع عند العجز عن البينة . والثاني : يواطئ رجلا يقر له بالحق ، [ ص: 5 ] ويمتنع من الأداء ، ويقر له الأخذ بالمال حتى يبيعه القاضي ، وهذا إرشاد إلى الكذب من الطرفين ، ويضعف وجوب الرفع .
ثم عند البيع إن كان الحق من جنس نقد البلد بيع المأخوذ به ، وإن لم يكن بأن ظفر بثوب والدين حنطة بيع الثوب بنقد البلد ، ثم يشتري به حنطة .
وحكى الإمام عن محققي الأصحاب أنه يجوز أن يشتري غير الحنطة بالثوب ، ولا يوسط النقد بينهما ، وهل يكون المأخوذ مضمونا على الآخذ حتى لو تلف قبل البيع أو التملك ، يتلف من ضمانه أم لا ؟ وجهان ، أصحهما نعم ، وهو الذي ذكره الصيدلاني والإمام ، ؛ لأنه أخذه لغرضه ، كالمستام بل أولى ؛ لأن المالك لم يسلطه . والغزالي
فعلى هذا ينبغي أن نبادر إلى البيع بحسب الإمكان ، فإن قصر فنقصت قيمته ضمن النقصان ، ولو انخفضت القيمة ، وارتفعت ، وتلف ، فهي مضمونة عليه بالأكثر ، ولو اتفق رد العين ، لم يضمن نقص القيمة كالغاصب ، ولو باعه وتملك ثمنه ، ثم قضى المستحق دينه ، ففيما علق عن الإمام أنه يجب أن يرد إليه قيمة المأخوذ ، كما إذا ظفر المالك بغير جنس المغصوب من مال الغاصب ، فأخذه ، وباعه ، ثم رد الغاصب المغصوب ، فإن على المالك أن يرد قيمة ما أخذه وباعه ، وينبغي أن لا يرد شيئا ولا يعطي شيئا .
فرع
ليس له الانتفاع بالعين المأخوذة ، فإن انتفع لزمه أجرة المثل .
فرع
لا يأخذ أكثر من حقه إذا أمكنه الاقتصار عليه ، فإن زاد فالزيادة مضمونة عليه ، فإن لم يمكنه بأن لم يظفر إلا بمتاع يزيد قيمته على [ ص: 6 ] قدر حقه ، فإن قلنا : لو كان المأخوذ قدر حقه لا يكون مضمونا ، فكذا الزيادة ، وإن قلنا : يكون مضمونا لم يضمن الزيادة على الأصح ، ثم إذا كان المأخوذ أكثر من حقه ، فإن كان مما يتجزأ باع منه قدر حقه ، وسعى في رد الباقي إليه بهبة ونحوها ، وإن كان لا يتجزأ ، فإن قدر على بيع البعض بما هو حقه ، باعه وسعى في رد الباقي إليه ، وإن لم يقدر باع الجميع ، وأخذ من ثمنه قدر حقه ، وحفظ الباقي إلى أن يرده .
فرع
، فله أخذها ، وتملكها بحقه ، ولو استحق مكسرة ، فظفر بصحاح ، فالمذهب جواز الأخذ لاتحاد الجنس ، وقيل : فيه الخلاف في اختلاف الجنس ، لاختلاف الغرض ، وإذا أخذها فليس له تملكها ، ولا يشتري بها مكسرة لا متفاضلا لما فيه من الربا ، ولا متساويا لأنه يجحف بالمأخوذ منه ، لكن يبيع صحاح الدراهم بدنانير ، ويشتري بها دراهم مكسرة ويتملكها . حقه دراهم صحاح ، فظفر بمكسرة
فرع
، ففي حصول التقاص أقوال مشهورة في كتاب الكتابة ، فإن قلنا : لا يحصل التقاص ، فجحد أحدهما الآخر ، فهل للآخر جحده ، ليحصل التقاص للضرورة ؟ وجهان ، أصحهما : نعم . شخصان ثبت لكل واحد منهما على صاحبه مثل ما له عليه
فرع
كما يجوز الأخذ من مال الغريم الجاحد ، أو المماطل يجوز ، بأن يكون لزيد على عمرو دين ، ولعمرو على [ ص: 7 ] بكر مثله ، يجوز لزيد أن يأخذ مال بكر بماله على عمرو ، ولا يمنع من ذلك رد عمرو ، وإقرار بكر ولا جحود بكر استحقاق زيد على عمرو . الأخذ من مال غريم الغريم
فرع
جحد دينه ، وله عليه صك بدين آخر قد قبضه ، وشهود الصك لا يعلمون القبض ، قال القاضي أبو سعد : له أن يدعي ذلك ، ويقيم البينة ، ويقبضه بدينه الآخر ، وفي فتاوى القفال أنه ليس له ذلك .
قلت : الصحيح قول أبي سعد ولو حدثت من المأخوذ زيادة قبل تملكه حيث جوز أو قبل بيعه ، فهي على ملك المأخوذ منه . والله أعلم .