الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : والدليل على اعتبار الشبه في الأنساب ، إذا اشتبهت ، والعمل فيها بالقيافة ، ما روى الشافعي في صدر الباب عن سفيان ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، رضوان الله عليها ، قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف السرور في وجهه . وروى ابن جريج ، عن الزهري : تبرق سرائر وجهه ، فقال : ألم ترى أن مجززا المدلجي نظر إلى أسامة وزيد ، عليهما قطيفة ، قد غطيا رؤوسهما ، وبدت أقدامهما ، فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض . ففيه دليلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن المشركين كانوا يطعنون في نسب أسامة بن زيد بن حارثة ، لأن زيدا كان قصيرا عريض الأكتاف أخنس أبيض اللون ، وكان أسامة مديد القامة أقنى أسود [ ص: 383 ] اللون ، وكان زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره القدح فيه وفي أسامة ، فلما جمع مجززا المدلجي بينهما في النسب ، بقوله : " هذه أقدام بعضها من بعض " سر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله لزوال القدح فيهما ، ممن كان يطعن في نسبهما ، فلو لم تكن القيافة حقا ، لما سر بها ، لأنه لا يسر بباطل ، ولرد ذلك عليه وإن أصاب ، لأن لا يأمن من الخطأ في غيره .

                                                                                                                                            والثاني : أن الشرع مأخوذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله ، وإقراره ، فكان إقراره لمجزز على حكمه شرعا من الرسول صلى الله عليه وسلم في جواز العمل به .

                                                                                                                                            ويدل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم إلى الأبطح ، فرأى بعض قافة الأعراب ، فقال : ما أشبه هذا القدم بقدم إبراهيم التي في الحجر ، فألحقه بالجد الأبعد ، وأقره على اقتفاء الأثر ، ولم ينكره ، فثبت اعتبار الشبه بالقافة شرعا ، ويدل على اشتهاره في الإسلام ، أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه إلى غار ثور مختفيا فيه من قريش ، أخذت قريش قائفا يتبع به أقدام بني إبراهيم ، فيتتبعها حتى انتهى إلى الغار ثم انقطع الأثر ، فقال : إلى هاهنا انقطع أثر بني إبراهيم ، فلم يكن من الرسول صلى الله عليه وسلم فيه إنكار ، فثبت أنه شرع ، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتبر الشبه في ولد العجلاني ، فقال : " إن جاءت به على نعت كذا ، فلا أراه إلا وقد صدق عليها ، وإن جاءت به على نعت كذا ، فلا أراه إلا وقد كذب عليها ، فجاءت به على النعت المكروه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لولا الأيمان " وروي " القرآن لكان لي ولها شأن " . يعني في إلحاق الولد بالفراش ، ونفيه عن العاهر ، ولولا أن الشبه مع جواز الاشتراك حكم ، لأمسك عنه كيلا يقول باطلا ، فيتبع فيه وقد نزه الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن قول الباطل كما نزهه عن فعله .

                                                                                                                                            ويدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا غلب ماء الرجل كان الشبه للأعمام ، وإذا غلب ماء المرأة كان الشبه للأخوال " ، فدل على أن للشبه تأثيرا فيما أشبه ، فقد كان بعض أصحابنا يستدل عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " ، فجعل للفراسة حكما ، ويدل عليه من طريق الإجماع اشتهاره في الصحابة ، رضي الله عنهم أنهم فعلوه ، وأقروا عليه ، ولم ينكروه ، حتى روي أن أنس بن مالك شك في ابن له ، فأراه القافة ، ولو كان هذا منكرا لما جاز منهم إقرارهم على منكر ، فصار كالإجماع ، وقد جرى في أشعارهم ما يدل على اعتبار القيافة عندهم ، واشتهار صحتها بينهم ، حتى قال شاعرهم :


                                                                                                                                            قد زعموا أن لا أحب مطرفا كلا ورب البيت حبا مسرفا     يعرفه من قاف أو تقوفا
                                                                                                                                            بالقدمين ، واليدين ، والقفا     وطرف عينيه إذا تشوفا

                                                                                                                                            [ ص: 384 ] ويدل عليه من طريق المعنى ، هو أن الحادثة في الشرع ، إذا تجاذبها أصلان ، حاظر ، ومبيح ، لم ترد إليها ، وردت إلى أقواهما شبها بها ، كذلك في اشتباه الأنساب .

                                                                                                                                            والدليل على إبطال إلحاق الولد يأتي في قول الله تعالى : ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى [ الحجرات : 13 ] . وهذا خطاب لجميعهم فدل على انتفاء خلق أحدهم من ذكرين وأنثى ، وقال تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه ) [ الإنسان : 2 ] . فمنع أن يكون مخلوقا من نطفتين ، ويدل عليه أن ليس في سالف الأمم وحديثها ، ولا جاهلية ، ولا إسلام ، أن نسبوا أحدا في أعصارهم ، إلى أبوين ، وفي إلحاقه باثنين خرق العادات ، وفي خرقها إبطال المعجزات ، وما أفضى إلى إبطالها ، بطل في نفسه ، ولم يبطلها والقياس ، هو أنهما شخصان ، لا يصح اجتماعهما على وطء واحد فلم يجز أن يلحق الولد بهما كالحر مع العبد ، والمسلم مع الكافر ، فإن أبا حنيفة يمتنع من إلحاقه بهما ، وإن اشتركا في الوطء فيلحقه بالحر دون العبد ، والمسلم دون الكافر ، والدليل على إبطال خلقه من ماءين مع ما قدمناه من نص الكتاب شيئان :

                                                                                                                                            أحدهما : ما أجمع عليه أمم الطب في خلق الإنسان ، أن علوق الولد يكون حين يمتزج ماء الرجل بماء المرأة ، ثم تنطبق الرحم عليهما بعد ذلك الامتزاج ، فينعقد علوقه لوقته ، ولا يصل إليه ماء آخر ، من ذلك الواطئ ولا من غيره ، وقد نبه الله تعالى على قوله تعالى : فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب ) يعني أصلاب الرجال ، وترائب النساء ، والترائب الصدور فاستحال ، بهذا خلق الولد من ماءين من ذكر أو من ذكرين .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لما استحال في شاهد العرف أن تنبت السنبلة من حبتين ، وتنبت النخلة من نواتين ، دل على استحالة خلق الولد من ماءين .

                                                                                                                                            فإن قيل لما لم يستحل خلق الولد من ماء ذكر ، وأنثى ، لم يستحل أن يخلق من ماء ذكرين وأنثى .

                                                                                                                                            قيل : قد جوزتم ما يستحيل إمكانه في العقول ، والعيان من إلحاق الولد ، بأمين فكيف اعتبرتم إنكار إلحاقه بأبوين ؟ وتعليلكم بالإمكان في الأبوين يبطل إلحاقكم له بأمين ، وكلا الأمرين عندنا مستحيل في الأبوين ، والأمين ، ثم نقول ما استحال عقلا وشرعا في لحوق الأنساب ، لم يثبت به نسب كابن عشرين إذا ادعى أبوه ابن عشرين سنة لم يلحق لاستحالته ، كذلك ادعاء امرأتين ولدا لم يلحق بهما لاستحالته .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية