الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما الصنائع فضربان : مسترذل وغير مسترذل .

                                                                                                                                            فأما غير المسترذل كالزراعة والصناعة ، فغير قادح في العدالة ، لأنه مما لا يستغني الناس عن الاكتساب بصنائعهم ومتاجرهم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن من الذنوب ما لا يكفره صوم ولا صلاة ويكفره عرق الجبين في طلب الحرفة " .

                                                                                                                                            وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله " .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أكذب الناس الصباغون والصواغون " .

                                                                                                                                            قيل : هذا موقوف على أبي هريرة وليس بمسند ، لأنه سمع قوما يرجفون بشيء فقال : كذبة قالها الصباغون والصواغون .

                                                                                                                                            وإن ثبت مسندا فقد اختلف أهل العلم في تأويله .

                                                                                                                                            فقال بعضهم : لأنهم يعدون ويخلفون . وإخلاف الوعد كذب .

                                                                                                                                            وقال آخرون : لأن الصباغين يسمون الألوان بما أشبهها فيقولون : هذا لون الشقائق ولون الشفق ولون النارنج .

                                                                                                                                            والصواغون يسمون الأشكال بما يماثلها ، فيقولون : هذا زرع وهذا شجر ، وتسمية الشيء بغير اسمه كذب .

                                                                                                                                            وقال آخرون : يريدون بالصباغين الذين يصبغون الكلام فيغيرون الصدق [ ص: 154 ] بالكذب ، لأن الصبغ تغيير اللون بغيره . ويريد بالصواغين الذين يصوغون الكلام . ومنهم الشعراء . لأنهم يكذبون في التشبيه والتشبيب .

                                                                                                                                            فإن كانوا على التأويل الأول ردت به شهادتهم ، لأن مخالفة الوعد كذب . وإن كانوا على التأويل الثاني ، لم ترد به الشهادة ، لأن مخالفة الاسم استعارة ، وإن كانوا على التأويل الثالث ، ردت الشهادة في الصباغين ولم ترد في الصواغين إذا سلموا من الكذب .

                                                                                                                                            وأما المسترذل من الصنائع فضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : ما كان مسترذلا في الدين كالمباشرين للأنجاس من الكناسين والزبالين ، والحجامين ، أو المشاهدين للعورات كالقيم والمزين .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : ما كان مسترذلا في الدنيا كالنسيج والحياكة ، وما يدنس برائحته كالقصاب والسماك ، فإن لم يحافظ هؤلاء على إزالة الأنجاس من أيديهم وثيابهم في أوقات صلواتهم وقصروا في حقوق الله تعالى عليهم ، كان ذلك جرحا في عدالتهم وقدحا في ديانتهم .

                                                                                                                                            وإن حافظوا على إزالة النجاسة ، والقيام بحقوق العدالة ، ففي قدح ذلك في عدالتهم ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أنه يقدح فيها ، لأن الرضا بها مع الاسترذال قدح .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه لا يقدح في العدالة لأنه لا يجد الناس منها بدا . ولأنها مستباحة شرعا .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : أنه يقدح في العدالة منها ما استرذل في الدين . ولا يقدح فيها ما استرذل في الدنيا ، لا سيما الحياكة لكثرة الخير في أهلها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية