الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        المنهج النبوي والتغيير الحضاري

        برغوث عبد العزيز بن مبارك

        المنهج النبوي والتثقيف الحضاري

        النموذج النبوي يعطينا صورة حية عن هـذا المفصل، من مفاصل التغيير، وهذا ما تدل عليه توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام ، المتعلقة بحثه على العلم، والتجربة الواقعية، والتفقه في دين الله، وكذلك في عملياته التربوية التي ثقف بها المجتمع الإسلامي الأول، وساعد الإنسان ليفهم بعمق رسالته، ومشروعه، والبدائل التي يجب تقديمها لحل أزمات مجتمعه. ومن الأهمية بمكان أن نثبت هـنا بعض النماذج من حياته صلى الله عليه وسلم وحياة صحابته الكرام، كمنتوج لعمليات التثقيف التي مارسها في مراحل الدعوة الأولى.

        النموذج الأول:

        تأمل جيدا جواب النبي عليه الصلاة والسلام لعمه أبي طالب، عندما قدم له مقترحات قريش لإغرائه، وصرفه عن دعوته حيث قال: ياعم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هـذا الأمر، حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته [1] في هـذا النموذج الرائع، لم يترك النبي عليه الصلاة والسلام ، أي مجال للشك في ارتباطه الوثيق، وإيمانه الجازم، بالأهداف الحضارية الكبرى للإسلام، [ ص: 134 ] فقد وضع عليه الصلاة والسلام وعيه، بين حدي العمل المنتج، وهما أن يظهر الله هـذا الدين، أو يهلك دونه، وهذا فهم عميق لرسالة الإسلام، وقدرة كبيرة على توجيه المشكلات، وحل المعضلات، لصالح مسار الدعوة الأصيل، فهو هـنا لم يقدم فقط موقفا رافضا لما هـو مطروح عليه من استفسارات، بل وضح منهجها في التعامل مع المشكلات، التي تتصل بقضية الاعتقاد، والإيمان بالأفكار، والتعامل مع أعدائها المغرضين.

        فالنبي عليه الصلاة والسلام ، قد نفذ بوعيه، وإدراكه للفكرة التوحيدية، من مجال الوعي البشري العادي، إلى مجال الوعي المتسامي، والمتجه نحو المولى تبارك وتعالى، وليتحرك في الواقع بنور الله، وهدايته.

        النموذج الثاني:

        انظر إلى موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لحقهم أذى المجتمع الجاهلي، عندما قال له والده أبو قحافة: ( يا بني إني أراك، تعتق رقابا ضعافا، فلو أنك ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك، ويقومون دونك؟ فقال أبو بكر: يا أبت إني، إنما أريد ما أريد لله عز وجل ) [2] إن هـذا الموقف من الخليفة الإسلامي الأول، فيما بعد، يعبر عن وعي بصير على الأهداف الحضارية الكبرى للأمة , ولنموذجها التوحيدي، رغم أن هـذا الموقف كان في المرحلة الأولى للدعوة.. فعلى الرغم من معقولية كلام والده وخاصة من المنطق القديم لكن جوابه كان واضحا وحاسما، لأنه يعرف بأن هـؤلاء الضعفاء هـم إسمنت البناء الحضاري.. وهذا الموقف هـو الذي صدقه التاريخ الإسلامي فيما بعد. [ ص: 135 ]

        النموذج الثالث:

        ويعبر عن الوعي التثقيفي، والتربوي العميق لدى النبي عليه الصلاة والسلام ، وتحكمه الجيد في حركة التوعية على منهجية العمل الإسلامي، وفهمه لمراحلها، ومتطلباتها. ففي إطار التدريب التربوي لأصحابه، ( رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هـو فيه من العافية، بمكانة من الله ثم من عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هـم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم مخرجا مما أنتم فيه. )

        النموذج الرابع:

        في هـذا النموذج يرسم لنا النبي عليه الصلاة والسلام منهجا أصيلا من مناهج الدعوات، وذلك باستخدامه منهج السير في الأرض، والنظر في سنن الذين خلوا، من أجل تثقيف أصحابه على منهج البناء الحضاري. فعن خباب بن الأرت رضي الله تعالى عنه، أنه قال: ( شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم : قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه، وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه.. والله ليتمن الله هـذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون ) .

        إن هـذا الوعي البصير، هـو الذي حافظ على حركة التغيير الإسلامي، ومكنها من المواجهة، والمراجعة الناجحة، والنمو الإيجابي، الخاضع لسنن الله في [ ص: 136 ] الخلق.. ومن المهم هـنا أن نعرف أمرين أساسيين:

        الأول: أن الرسول صلوات الله عليه لما أخذ المسلمون عنه دينهم، كان وازعهم فيه من أنفسهم، لما تلي عليهم من الترغيب والترهيب، ولم يكن بتعليم صناعي، ولا تأديب تعليمي، وإنما هـي أحكام الدين، وآدابه المتلقاة نقلا، يأخذون أنفسهم بها، بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق) .

        ثانيا: ومن هـنا، فإن عمليات الربط الحضاري، والتثقيف الحضاري، كانتا متلازمتين في النموذج التغييري النبوي، وهذا ما انتبه إليه مالك بن نبي رحمه الله بذكاء حيث قال: إلا أن الحضارة الإسلامية قد جاءت بالتحديدين مرة واحدة، وصدرت فيهما عن القرآن الكريم الذي نفى الأفكار الجاهلية البالية، ثم رسم طريق الفكرة الإسلامية الصافية التي تخطط للمستقبل بطريقة إيجابية.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية