فيقال له: أولا: أرسطو لم يثبت علة أولى مبدعة للعالم، ولا فاعلة له، ولا علة فاعلة له. وإنما أثبت علة غائية له، ولم يقم على ذلك دليلا. فهو مع أنه لم يذكر إلا جزء علة لم يقم عليه دليلا. فأي تمام وكمال أثبته للعلة الأولى؟!
وأما أهل الإثبات فيقولون: نحن نثبت للأول غاية ما يمكن من التمام والكمال، بما نثبته له من صفات الكمال وأفعاله سبحانه وتعالى، فنحن أحق بوصفه بالكمال، من وجوه لا تحصر.
وإذا قال القائل: فلم تأخر ما تأخر من مفعولاته؟
قلنا: هو لازم على القولين، فلا يختص بجوابه.
ثم يقال: الموجب لذلك ما تقول أنت في نظيره في تأخر الحوادث، مثل استجماع الشروط التي بها يصلح كون الحادث مفعولا، أو بها يمكن كونه مفعولا، فإن عدمه قبل ذلك قد يكون لعدم الإمكان، وقد يكون لعدم الحكمة الموجبة تأخره؛ إذ لا بد في الفعل من القدرة التامة والإرادة التامة المستلزمة للحكمة.
وأما قوله: كما أنه ليس يمكن أن تؤخر الطبيعة فعلها في المادة القابلة إلا لعائق، فكذلك الأمر في العالم إذا كان إمكانه لم يزل. والإمكان له بمنزلة المادة. [ ص: 294 ]
فيقال: أولا أنت لم تثبت له فعلا ولا إبداعا، بل الطبيعة عندك تفعل. والأول لم يثبت إلا كونه محبوبا للتشبه به، وأثبت ذلك بلا دليل.
ويقال لك: ثانيا: إن كان مجرد الإمكان موجبا لكون الممكن مقارنا للواجب، لزم أن يكون كل ما يمكن وجوده أزليا. وهذا مكابرة للحس والعقل.
فإن قلت: إن بعض الممكنات توقف على شروط، أو يكون له مانع.
قيل لك: فحينئذ ما المانع أن يكون إبداع الأول للعلل متوقفا على شروط، أو له مانع، مع كون الأول لم يزل يفعل أفعالا قائمة بنفسه، أو مفعولات منفصلة عنه، كما يقوله أساطين أصحابك من الفلاسفة المتقدمين على أرسطو أو غيرهم؟
ويقال لك: ثالثا: إن كان العالم واجبا لنفسه، فقد تأخر كثير من أفعاله، فيلزم أن يتأخر ما يتأخر من فعل الواجب بنفسه، وإن كان ممكنا بنفسه، ففاعله قد أخر كثيرا مما فيه من الأفعال.
وعلى كل تقدير فقد تأخر عن الواجب بنفسه ما تأخر من مفعولاته، فعلم أنه لا يلزم مقارنة مفعولاته كلها له، وإذا جاز تأخر ما يتأخر من مفعولاته، فلم لا يجوز أن تكون الأفلاك من ذلك المتأخر؟
قال: إلا أن قوما يرون أنه يجب من هذا -أعني من وجوب وجود العالم مع العلة الأولى- أن لا يكون صنع إرادي للعلة الأولى في وجود [ ص: 295 ] العالم، كما لا صنع لها في وجود جوهرها؛ إذ كان وجود العالم غير ممكن تأخره عن وجود جوهر العلة الأولى، فيكون وجوده لازما اتباعه لوجود العلة الأولى، فتكون العلة الأولى علة طبيعية للعالم ومتممة له، فيكون القياس في ذلك كالقياس فيما يفعله الفلك ويؤثره بطبيعته؛ إذ وجود ذلك مع وجود جوهر الفلك، لا سيما وأرسطوطاليس يقول: إن المحرك الأول هو علة حركة كل ما في الكون بالتشوق.
فالأولى على ظاهر الأمر أن يكون الشيء المتشوق إليه تشوق بجهة طبيعته لا بإرادته؛ لأنه قد يمكن أن يكون المعشوق المتشوق إليه نائما أو غير ذي إرادة، وهو يحرك المشتاق إليه والعاشق له، إلا أنه ينبغي أن يترك أمر العلة الأولى في جوهرها وسائر أمورها، على أفضل ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه.
فإذن ليس يؤثر جوهر هذه العلة أثرا ولا يفعل فعلا منقلبا عن قصدها وإرادتها، ولا دون إرادتها؛ إذ ليس في هذه الذات نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج، ولا فوق جوهرها أمر تقتبس منه ازديادا في شيء من حاله، ولا يعرض لها أمر تحتاج إلى استدفاعه. فجوهرها إذن ليس فيه شوق إلى شيء، ولا منافرة لشيء، ولا قبول لتغيير، ولا لحدوث شأن متجدد له.
فليس يوجد إذن أمر يحدث هذه الذات بالطبع وبغير إرادة، وليس يوجد إذن أمر يدعو هذه الذات في حال أو شأن، ليس هي المبدأ الأول له، والعلة فيه.
وبالجملة فكل ما كان له ما هو بالطبع على الجهة الطبيعية التي [ ص: 296 ] ينحوها، فإنه يلزم أن يوجد في جوهره شوق بالطبع إلى حال لا تملكها إرادته، والمشتاق معلول من جهة شوقه للشيء المشوق له، والشيء المشوق له مبدأ له في ذلك الشوق، ومن جهة أنه هو له علة تمامية من جهة من الجهات.
وليس يليق هذا الأمر ألبتة بالمبدأ الأول، ولكنه مبدأ لكل طبيعة ولكل شوق ولكل حركة.