قلت: فهذا الكلام وأمثاله يقوله كثير من أصحاب الأئمة الأربعة ومعلوم أن الأئمة الأربعة ما قالوا لا هذا القول، ولا هذا القول، وإنما قال ذلك من أتباعهم من سلك السبل المتقدمة.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يدع أحدا من الخلق إلى النظر ابتداء، ولا إلى مجرد إثبات الصانع، بل أول ما دعاهم إليه الشهادتان، وبذلك أمر أصحابه.
كما قال في الحديث المتفق على صحته لمعاذ بن جبل رضي الله عنه، لما بعثه إلى اليمن: « . [ ص: 7 ] إنك تأتي قوما أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم»
وكذلك سائر الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- موافقة لهذا، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة « وابن عمر: . أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله»
وفي حديث ابن عمر: . « حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة»
وهذا مما اتفق عليه أئمة الدين، وعلماء المسلمين، فإنهم مجمعون على ما علم بالاضطرار من دين الرسول، أن كل كافر فإنه يدعى إلى الشهادتين، سواء كان معطلا، أو مشركا، أو كتابيا، وبذلك يصير الكافر مسلما، ولا يصير مسلما بدون ذلك.
كما قال أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر إذ قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن أبو بكر بن المنذر: محمدا عبده ورسوله، وأن كل ما جاء به محمد حق، وأبرأ إلى الله من كل دين يخالف دين الإسلام - وهو بالغ صحيح يعقل - أنه مسلم، فإن رجع بعد ذلك فأظهر الكفر كان مرتدا، يجب عليه ما يجب على المرتد.
لكن تنازعوا فيما محمدا رسول الله: هل يتضمن ذلك الشهادة بالتوحيد أو لا يتضمن؟ أو يفرق بين من يكون [ ص: 8 ] إذا قال: أشهد أن
مقرا بالتوحيد ومن لا يكون مقرا، على ثلاثة أقوال معروفة من مذهب وغيره من الفقهاء. أحمد
ولهذا قال غير واحد ممن تكلم في أول الواجبات، كالشيخ عبد القادر وغيره: أول واجب على الداخل في ديننا هو الشهادتان.
واتفق المسلمون على أن الصبي إذا بلغ مسلما، لم يجب عليه عقب بلوغه تجديد الشهادتين.
والقرآن العزيز ليس فيه أن النظر أول الواجبات، ولا فيه إيجاب النظر على كل أحد، وإنما في الأمر بالنظر لبعض الناس، وهذا موافق لقول من يقول: إنه واجب على من لم يحصل له الإيمان إلا به، بل هو واجب على كل من لا يؤدي واجبا إلا به.
وهذا أصح الأقوال.
فقوله تعالى: أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون [ سورة الروم: 8] وهذا بعد قوله: ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون [سورة الروم:6،7 ]. ثم قال تعالى: أولم يتفكروا في أنفسهم [سورة الروم: 8] فالضمير عائد إلى الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون. [ ص: 9 ]
وقوله تعالى: أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون [سورة الأعراف: 184، 185].
فهذا مذكور بعد قوله: والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [سورة الأعراف: 182، 183].
ثم قال: أولم يتفكروا ما بصاحبهم [سورة الأعراف: 184]، فالضمير عائد إلى المكذبين، فإنه قال تعالى: أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة [سورة الأعراف: 184] ثم قال تعالى: أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون [سورة الأعراف: 185] فقول هؤلاء، كأبي المعالي وغيره: (أول ما يجب على العاقل البالغ، باستكمال سن البلوغ أو الحلم شرعا، القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدث العالم) هو في الأصل من [ ص: 10 ]
كلام المعتزلة، وهو كلام مخالف لما أجمع عليه أئمة الدين، ولما تواتر عن سيد المرسلين، بل لما علم بالاضطرار من دينه.