ونظير هذا ما ذكره أبو المعالي في كتابه أصول الفقه المسمى "بالبرهان" لما ذكر [ ص: 151 ] فقال: "القياس فيما ذكره أصحاب المذاهب ينقسم إلى شرعي وعقلي، ثم الناظرون في الأصول والمنكرون تفرقوا على مذاهب، فذهب بعضهم إلى رد القياسين، وقال القائلون: هذا مذهب منكري النظر... وقال قائلون بالقياس العقلي والسمعي، وهذا مذهب الأصوليين والقياسيين، من الفقهاء. وذهب ذاهبون إلى القول بالقياس العقلي، وجحد القياس الشرعي. وهذا مذهب النظام وطوائف من مذهب الناس في القياس العقلي والشرعي، الرافضة والإباضية والأزارقة ومعظم فرق الخوارج إلا النجدات. وصار صائرون إلى النهي عن والأمر القياس النظري، [ ص: 152 ] بالقياس الشرعي".
قال "وهذا مذهب والمقتصدين من أتباعه، وليس ينكرون إفضاء النظر العقلي إلى العلم، ولكن ينهون عن ملابسته والاشتغال به" . أحمد بن حنبل
قال: "وذهب الغلاة من الحشوية وأهل الظاهر إلى رد القياس العقلي والشرعي" .
قال أبو المعالي: أطلق النقلة القياس العقلي، فإن عنوا به النظر العقلي فهو من نوعه إذا استجمع شرائط الصحة، مفض إلى العلم مأمور به شرعا، والقياس الشرعي متقبل معمول به إذا صح على السبر اللائق به، وإن عنى الناقلون بالقياس العقلي اعتبار شيء بشيء، ووقوف نظر في غائب على استثارة معنى في شاهد، فهذا باطل عندي لا أصل له، فليس في المعقولات قياس، وقد فهم عنا ذلك طلبة المعقولات. [ ص: 153 ]
قلت: هذا الذي ذكره أبو المعالي من وافقه عليه طائفة من المتأخرين، إنكار القياس في المعقولات كأبي حامد الرازي وأبي محمد المقدسي، قال: قياس التمثيل إنما يكون في الشرعيات. والمنطقيون قد يدعون أن قياس التمثيل في العقليات إنما يفيد الظن، وأما جمهور العقلاء فعلى أنه لا فرق بين قياس الشمول وقياس التمثيل في إفادة العلم والظن، فإن مما يجعل في قياس الشمول حدا أوسط يجعل في قياس التمثيل مناط الحكم، ويسمى العلة والوصف والمشترك.
فإذا قيل: النبيذ المسكر حرام، لأنه مسكر، وكل مسكر حرام - فهذا ولا بد له من دليل يدل على صحة المقدمة الكبرى القائلة: كل مسكر حرام فإذا استدل قياس شمول، قال: إنه مسكر فكان حراما، قياسا على عصير العنب المسكر. ثم يبين أن العلة في الأصل هو السكر، فالدليل الدال على علة الوصف في الأصل، هو الدال على صحة المقدمة الكبرى، والسكر هو الوصف الذي علق به الحكم، وهو مناطه، وهو المشترك بين الأصل والفرع الذي علق به الحكم، والمسكر المتصف بالسكر هو الحد الأوسط المقرر في قياس الشمول، الذي هو محمول في المقدمة الصغرى، موضوع في الكبرى. بقياس التمثيل:
وأما ما ذكره عن فقد أنكره أصحاب أحمد حتى قال أحمد، لمن قرأ عليه كتاب البرهان: "هذا النقل ليس بصحيح عن مذهب أبو البقاء العكبري . وهو كما قال، فإن الإمام أحمد" لم ينه عن نظر في دليل عقلي صحيح يفضي إلى المطلوب، بل في كلامه في أصول الدين في الرد على أحمد الجهمية وغيرهم من الاحتجاج بالأدلة العقلية [ ص: 154 ] على فساد قول المخالفين للسنة ما هو معروف في كتبه وعند أصحابه.
ولكن ذم من الكلام البدعي ما ذمه سائر الأمة، وهو الكلام المخالف للكتاب والسنة، والكلام في الله ودينه بغيره علم. أحمد
واستدل بقوله تعالى: أحمد قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [سورة الأعراف: 33] .
أشهر وأكثر كلاما في أصول الدين بالأدلة القطعية: نقلها وعقلها من سائر الأئمة، لأنه ابتلي بمخالفي السنة، فاحتاج إلى ذلك. والموجود في كلامه، من الاحتجاج بالأدلة العقلية على ما يوافق السنة، لم يوجد مثله في كلام سائر الأئمة، ولكن وأحمد في حق الله تعالى لم يسلكه قياس التمثيل لم يسلك فيه إلا أحمد، وهو الذي جاء به الكتاب والسنة، فإن الله لا يماثل غيره في شيء من الأشياء حتى يتساويا في حكم القياس، بل هو سبحانه أحق بكل حمد، وأبعد عن كل ذم، فما كان من صفات الكمال المحضة التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه، فهو أحق به من كل ما سواه، وما كان من صفات النقص فهو أحق بتنزيهه عنه من كل ما سواه. قياس الأولى،
والقرآن لما بين قدرته في إعادة الخلق بفعله لما هو أبلغ من ذلك، كان هذا من باب قياس الأولى. وكذلك بين تنزيهه عن الولد والشريك. وكذلك سلك هذا المسلك - كما ذكره في موضعه - مثل بيانه لإمكان كونه عالما بجميع المخلوقات، مع كونه بائنا عن العالم فوق [ ص: 155 ] العرش، بقياسين عقليين: أحدهما أن الإنسان قد يكون معه قدح صاف فيرى ما فيه مع مباينته له، فالرب سبحانه قدرته على العالم ومباينته له، أعظم من قدرة هذا على ما في يده، فلا تمتنع رؤيته لما فيه وإحاطته به مع مباينته له. أحمد
والقياس الثاني من بنى دارا وخرج منها فهو يعلم ما فيها، لكونه فعلها، وإن لم يكن فيها.
فالرب الذي خلق كل شيء وأبدعه، هو أحق بأن يعلم ما خلق، وهو اللطيف الخبير، وإن لم يكن حالا في المخلوقات.
والمقصود أن يستدل بالأدلة العقلية على المطالب الإلهية إذا كانت صحيحة، إنما يذم ما يخالف الكتاب والسنة، أو الكلام بلا علم، والكلام المبتدع في الدين، كقوله في رسالته إلى المتوكل: "لا أحب الكلام في هذا إلا ما كان في كتاب الله أو حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الصحابة أو التابعين، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود" . أحمد
وهو لا يكره - إذا عرف معاني الكتاب والسنة - أن يعبر عنها بعبارات أخرى إذا احتيج إلى ذلك، بل هو قد فعل ذلك، بل يكره المعاني المبتدعة في هذا، أي فيما خاض الناس فيه - من الكلام في القرآن والرؤية والقدر والصفات - إلا بما يوافق الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين. [ ص: 156 ]
ولهذا كره الكلام في (الجسم) وفي (الحيز) ، وفي اللفظ بالقرآن نفيا وإثباتا، لما في كل من النفي والإثبات من باطل، وكلامه في هذه الأمور مبسوط في موضع آخر [كما هو معروف في كتابه وخطابه].
والمذموم شرعا ما ذمه الله ورسوله، والجدل بغير علم، والجدل في الحق بعد ما تبين. كالجدل بالباطل،
فأما كالتي ذكرها الله تعالى على الأنبياء عليهم السلام وأمر بها، مثل قوله تعالى: المجادلة الشرعية، قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا [سورة هود: 32] .
وقوله: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه [سورة الأنعام: 83] ، وقوله تعالى: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه [سورة البقرة: 258] .
وقوله تعالى: وجادلهم بالتي هي أحسن [سورة النحل: 125] .
وأمثال ذلك، فقد يكون واجبا أو مستحبا، وما كان كذلك لم يكن مذموما في الشرع.
وما ذكره من كلام السلف، في [أبو حامد] الغزالي لو أنه معروف عنهم، في كتب يعتمد عليها، لم يذكره هنا. [ ص: 157 ] وقد نقل من ذلك ما نقله من كتاب ذم أهل الكلام، الذي سماه "فضل العلم وأهله، وما يلزمهم في تأديته وحمله" أبي عمر بن عبد البر، وأبو عمر من أعلم الناس بالآثار والتمييز بين صحيحها وسقيمها.