الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                نظائر للعبدي : قال : يلزم الضمان إلا أن تقوم بينة في سبع مسائل : الرهن فيما يغاب عليه ، وكذلك العارية ، والمبيع بالخيار إذا كان يغاب عليه ، ونفقة الولد عند [ ص: 114 ] الحاضنة ، والصداق إذا كان مما يغاب عليه ، وادعت المرأة تلفه ، ووقعت فيه الشركة بالطلاق ، والمقسوم من التركة بين الورثة ثم انتقضت القسمة ، ووقعت فيه الشركة بالدين ، أو بالغلط ، وقد تلف ، وهو مما يغاب عليه ، والصناع .

                                                                                                                تفريع : قال صاحب المنتقى : إذا أتى بالثوب محترقا ضمن إلا أن تقوم بينة ، أو اشتهر احتراق حانوته ، وبعض متاعه محترقا ضمن . قاله ابن القاسم . فإن ثبت احتراق حانوته ، ولم يأت ببعض الثوب ، فظاهر المسألة أنه غير مصدق . قال : والذي أراه إن كانت عادته الدفع في حانوته صدق . وحيث ضمن ، فالقيمة يوم الضياع لا يوم الارتهان عند ابن القاسم ; لأن الارتهان لا يوجب ضمانا ، بل الضياع ، فإن جهلت فيوم الرهن ، وهذا إذا لم يقوم الرهن يوم الارتهان ، فإن قوم لزمت تلك القيمة إلا أن يعلم زيادتها ونقصانها فيقوم بما صارت إليه . قاله مالك ; لأن التقويم يوم الارتهان اتفاق على القيمة ، فيحملان عليه إلا أن يثبت خلافه . وفي الجواهر : يصدق المرتهن فيما لا يغاب عليه إلا أن يدعي موت الدابة في موضع يشتهر لو وقع ، ولم يذكر .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال الطرطوشي : رهن المغصوب من غاصبه يسقط عنه ضمانه ، وقاله ( ح ) ، وقال ( ش ) : لا يسقط ضمان الغصب .

                                                                                                                لنا : القياس على ما إذا باعه منه ، أو وهبه منه ، والجامع الإذن في الإمساك المناقض لمنع الغصب ، وإذا تعلق الحكم بعلة زال بزوالها . ولا يلزمنا إذا لم يأذن له في القبض ، فإن الرهن يصح ، ويسقط ضمان الغصب ; لأنه مقبوض عنده قبل الرهن .

                                                                                                                ولنا أيضا : القياس على ما إذا أودعه ، أو حكم من أحكام ( كذا ) فيسقط قياسا على وجوب الرد ، وسقوط الإثم ، والتفسيق .

                                                                                                                احتجوا بأنه إحدى حالتي الرهن ، فلا ينافي ضمان الغصب كحالة الاستدامة ، أو قياسا للنهاية على البداية ، أو بالقياس على الرهن عبد المجني عليه ، فإن ضمان [ ص: 115 ] الجناية لا يسقط ، أو عقد لا يمنع طريان الضمان عليه ، فلا يمنعه سابقا كالنكاح والإجارة فيما إذا غصبت عبدا ثم زوجته ، أو غصبته ثم استأجرته على تعلمه ، أو غصب ثوبا ، فاستأجره على خياطته ، وبهذه المسائل يبطل قولكم : الإذن يناقض الضمان ، وأن البيع إنما أسقط الضمان لزوال الملك ، ويمتنع أن يضمن ملكه .

                                                                                                                والجواب عن الأول : الفرق بين الاستدامة والابتداء أن الاستدامة في النكاح لا تمنعها العدة ، والاستبراء ، ويمنعان ابتداء ; لأن الحق تعلق به ، وموته لا يسقط الحق ، ثم الفرق أن الجاني تعلق الرهن بعينه ، وفي الرهن بالذمة بدليل الاستدامة برد المنافي منها بعد التقرر والثبوت بخلاف مقارنة الابتداء ، وهو أضعف لعدم التقرر ، وعن الثاني : الفرق بأن ضمان الجناية مستقر لوجود سببه ، وضمان الغصب يتوقف على هلاك المغصوب ، وما وجد فكان ضعيفا ، فبطل بالرهن ، وعن الثالث : الفرق أن كل الأمور لا تستلزم الإذن في وضع اليد ، والرهن يستلزمه ، والإذن في وضع اليد هنا يناقض الغصب ; لأنه وضع اليد بغير إذن ، وعن الرابع : أنه كما استحال أن يضمن ملكه استحال اجتماع يد بغير إذن مع الإذن ; لأنهما نقيضان .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال صاحب البيان : قال أشهب : إذا اعترف المرتهن ببطلان دعواه التي قضي بها له عليك ، والرهن حيوان ضمنه لأخذه عدوانا ، ولو أقمت عليه بينة ببطلانها لم يضمن ; لأنه لم يدخل على العدوان بخلاف الأمة المشتركة يجحد أحدهما نصيب صاحبه ، فتقوم البينة ، فإنه يضمن ، وعن ابن القاسم لا يضمن .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الكتاب : إذا باع الراهن الرهن بغير إذن المرتهن امتنع ، فإن أجازه جاز ، ويعجل حقه . لأن المنع لأجله ، ولم يرض ذمة الراهن . فإن أذن في البيع ، وقال : لم آذن ليأخذ الثمن حلف ، فإن أتى الراهن حينئذ برهن يشبه الأول وبقيمته أخذ الثمن [ ص: 116 ] وإلا بقي رهنا ، ولا يعجل . هذا إذا بيع بإذنه ، ولم يسلمه للمبتاع من يده ، وأخذ الثمن ، فإن سلمه للراهن ، فباعه خرج من الرهن . وإن باع المرتهن ، أو وهب تعديا يلزمه رده ، ويدفع ما عليه ، ويتبع المبتاع البائع .

                                                                                                                في التنبيهات : هذا التصرف كله بعد القبض ، وعن مالك إمضاء البيع ، وتعجيل الحق توفية بالعقد ، ولا خيار للمرتهن إلا أن يبيعه بأقل من الدين ، أو بخلافه ، فإن باع قبل القبض مضى البيع ، وخرج من الرهن لضعف الرهن قبل القبض ، واختلاف العلماء في لزومه حينئذ ، ولا يطالبه برهن غيره ; لأن إهماله في يده حتى باع كرده له ، ولا يعجل الحق ، ولا يحلف المرتهن عند مالك ، وابن القاسم ، وروي يحلف للتهمة . وقول مالك لتمكنه من القبض يدل على أنه لو بادر يبطل الرهن ، ومضى البيع ، وبقي ثمنه رهنا . قاله ابن أبي زيد تأويلا ، وقال غيره : يمتنع البيع ، ويرد فيبقى رهنا توفية بعقد الرهن ، وعلى قولهم في حوز الهبة إذا مات قبل التراخي في الحوز ، وقيل : هذا إذا اشترط الرهن في أصل العقد ، فباعه الراهن بعد التراخي أما لو باعه ليخرجه من الرهن انتقض البيع ، فإن فات بيد المشتري بقي رهنا . وأما ما تطوع به الراهن بعد الحكم ، فبيعه كبيع الهبة قبل قبضها . وفي الموازية : ينفذ البيع ، قرب أو بعد ، وهذا كله على الخلاف في الهبة المبيعة . وقيل : إنما يبطل الرهن إذا سلم المشتري السلعة قبل بيع الرهن أما وسلعته قائمة لا يلزمه تسليم حتى يدفع إليه رهنا ، فرط في القبض أم لا . ومعنى قوله قائمة بمثله صفة وقيمة - أن السوق قد ينحط ، فلا يفي بدينه ، أو الأول عقار لا يضمن فيأتيه بما يضمن فيتضرر .

                                                                                                                قال ابن يونس : فإن استهلك الرهن قبل دفعه للمرتهن ، وعنده وفاء وفاه ، وتم البيع ، وإلا فللمرتهن رد البيع . ولو دفعه المرتهن للراهن ، وقال : إنما دفعته لك لتعجل لي حقي ، فأنكر . قال أشهب : يحلف المرتهن ، ولا يضره قيام الغرماء إن قرب دفعه إليه ، وإلا فالغرماء أحق . وقوله إذا نقد المرتهن في البيع أخذه ربه ، ودفع ما عليه ، ويتبع المشتري البائع فيلزمه بحقه ، يريد يدفع الراهن ما عليه للمشتري ، ويأخذه منه ، فإن كان أقل مما دفعه المشتري يرجع المشتري ببقية [ ص: 117 ] ثمنه على بائعه ، ويريد أنه باعه ، وقد حل الأجل ، أما قبل الحلول فيخير الراهن في إجازة البيع ، وقبض الثمن ، ولا يرده للمرتهن ، ويجعله بيد عدل رهنا إلى أجله ، وله قبض الثمن ، ويوقف له الرهن . وكذلك إن رد البيع جعل الرهن بيد عدل لئلا يعود المرتهن للبيع عند ابن القاسم ، وعند أشهب يقبض الراهن الثمن ، ولا يتعجله المرتهن من دينه ; لأنه فسخ رهنه . قال أشهب : فإن فات الرهن غرم المرتهن الأكثر من الثمن ، أو القيمة يوم البيع لوجود سببي ضمانهما من التعدي ، وأخذ الثمن ، ولا يحبس المرتهن منه شيئا بحقه إذا كان لم يحل ; لأنه فسخ رهنه . ولو تعدى من وضع على يديه غرم الأكثر منهما ، وتعجل المرتهن إن كان كصفة الدين ، وإن لم يحل الأجل ; لأن وقفه ضرر . وابن القاسم يرى في مثل إيقاف الثمن ، وأن يقع بمثل الصفة لعل الراهن يأتي برهن مثل الرهن ، ويأخذ الثمن أما لو أيس من ذلك ، فلا فائدة في الإيقاف ، بل ضرر عليهما .

                                                                                                                قال اللخمي : إن بيع بغير أمره بمثل الثمن ، والدين عين ؛ مضى البيع ، وعجل الدين ، وكذلك إن كان الدين عرضا من قرض ، فرضي الراهن أن يشتري بثمنه ويعجله ، وفيه وفاء بالعرض ، وإن لم يرض الراهن بتعجيل الدين إن كان الدين عرضا من قرض ، ولم يجتمعا على تعجيل الدين امتنع البيع ، وإن كان ذلك وقت نفاق ذلك الرهن ، أو موسم بيعه لم يرد البيع ، وإن لم يوف بالدين ; لأن المنع ضرر غير ضرر منفعة للمرتهن . وإن وهب المرتهن الرهن دفع الراهن الدين للمرتهن ، وأخذه من الموهوب ، ولا شيء للموهوب على الواهب . وإذا باع المرتهن ثم غاب ، واختلف الدين والثمن ، والدين أكثر ؛ دفع للمشتري ثمنه ، ووقف السلطان الفضل ، أو الثمن أكثر ؛ أخذ الدين ، واتبع البائع بالفضل . وإن باعه بمثلي ثم غاب قبض السلطان الدين من الراهن ، ودفع له الرهن ، ويشتري من الدين بمثل ما قبضه المرتهن من المشتري ، فإن فضل للغائب شيء دفعه له ، وإن فضل عنده شيء اتبع به ، وإن كان باعه دفع إليه قيمته .

                                                                                                                قال ابن القاسم : فإن باع المرتهن الرهن ، ولا يعلم الراهن ولا المرتهن صفته ولا [ ص: 118 ] قيمته يحلف المرتهن على ما باعه . وقال ابن حبيب : إن فات على المرتهن الأكثر من القيمة ، أو الثمن ، وقال أصبغ : إذا كانت للمرتهن بينة على الصفة يوم باعه ، ولا بقيمته يوم باعه على صفته التي كان عليها يوم ارتهنه إلا أن تكون صفته يوم باعه أفضل ، فقيمته يوم باعه إلا أن يكون الثمن أكثر نظرا إلى وضع اليد ، والتعدي بالبيع ، وقبض الثمن الناشئ عن الرهن ، وكلها أسباب ضمان فعليه أكثرها . هذا إن كان مما يغاب عليه ، وإلا فالأكثر من قيمة صفته يوم البيع ، أو الثمن الذي باعه به ; لأن ما يغاب عليه مضمون بالقبض ، فلا يصدق في نقص القيمة .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية