الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 295 ] احتجوا : بأن دية يد الحر والمدبر دية عن يديه ، وهي مساوية لدية النفس ، فكذلك العبد القن ، ولأنها جناية على ملك الغير فلا يشترط في البدل تسليم المجني عليه . أصله إذا قطع اليد الواحدة ، وفقهه : أن ضمان العبد ضمان الدماء ، وخراجه من قيمته كخراج الحر من ديته ، كما في يدي الحر دية كاملة ، ففي يد العبد قيمة كاملة .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن المدبر - عندنا - لا يقبل انتقال الملك لما جعل فيه من عقد العتق ، وكذلك الحر لا يقبل الملك البتة ، وصورة النزاع قابلة للملك فلا يلزم من بقاء المدبر لسيده مع الأرش ، وإن عظم بقاء القن ، وعن الثاني : أن جل المنفعة لم يذهب باليد الواحدة ، وإن فرضتموه كذلك منعنا الحكم ، وأوجبنا كمال القيمة ، أما اليدان : فمذهبنا أن لجل المنفعة كمسألة الحنطة المبلولة والفالوذج ، وأما ما ذكرتم في أصل المسألة : أن العدوان لا يكون سبب الملك ، فيبطل بالاستيلاء العدوان من قبل الأب في جارية ابنه ، وأما قولكم : إن العبد نسبة أطرافه إلى قيمته كنسبة أطراف الحر إلى ديته فغير مسلم ، بل العبد - عندنا - يضمن أطرافه بما نقص تغليبا لشائبة المالية .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الكتاب : إذا غصبها فزادت قيمتها أو نقصت ، فإنما عليه القيمة يوم الغصب ، وهذا الفرع يرجع إلى أن الغاصب يضمن أعلى القيم ، وهو مذهب الشافعي ، وحكاه اللخمي عن جماعة من أصحابنا وابن حنبل ، أو القيمة يوم الغصب فقط ، وهو مذهبنا ومذهب ( ح ) ، وعلى الأول : لو تعلم العبد [ ص: 296 ] صنعة ، ثم نسيها ضمن الغاصب قيمتها ، لنا : أن وضع اليد هو سبب الضمان ; لقوله - عليه السلام - : ( على اليد ما أخذت حتى ترده ) وترتيب الحكم على الوصف يدل على علية ذلك الوصف لذلك الحكم ، فتكون اليد هي سبب الضمان ، فيترتب الضمان عليه ، ويعد الضمان لا ضمان ; لأنه تحصيل الحاصل ، ولأن الضمان يصير المضمون ملك الضامن على ما سيأتي ، وتجد يد ضمان في ملك الإنسان خلاف الإجماع ; ولقوله تعالى : " ما على المحسنين من سبيل " والراد للمغصوب محسن بفعله للواجب ، فلا يكون عليه سبيل ، ولأن الغصب لم يتناول الزيادة فلا تكون مضمونة ، وقياسا على زيادة حوالة الأسواق ، فلأنها لا تضمن اتفاقا منهم ، وقد حكى اللخمي ذلك عن مالك ، وابن القاسم ، وحكى عن أشهب ، وعبد الملك : أخذ أرفع القيم إذا حال السوق ، والفرق عندهم : أن حوالة الأسواق رغبات الناس ، وهي خارجة عن السلعة ، فلا يؤمر فيها بخلاف زيادة صفاتها .

                                                                                                                احتجوا : بأن الغاصب في كل وقت مأمور بالرد ، فهو مأمور برد الزيادة ، وما ردها ، فيكون غاصبا لها فيضمنها ، ولأن الزيادة نشأت عن ملكه فتكون ملكه ، ويد العدوان عليها ، فتكون مغصوبة فتضمن كالعين المغصوبة .

                                                                                                                والجواب : عن جميع ما ذكروه أنا نسلم أنه مأمور ، وأن الزيادة ملكه ، لكن لا نسلم ضمانها بسبب أن أسباب الضمان ثلاثة : الإتلاف ، والتسبب للإتلاف ، ووضع اليد غير المؤمنة ، ولا نسلم وجود واحد منها ، أما الأولان فظاهر ، وبالفرض ، وأما الثالث : فلأنه لم يوجد وضع اليد إلا في المغصوب ، أما زيادته فلم يوجد إلا استصحابها ، واستصحاب الشيء لا يلزم أن يقوم مقامه ، بدليل أن استصحاب النكاح يقوم مقام العقد الأول لصحته مع الاستبراء ، [ ص: 297 ] والعقد لا يثبت مع الاستبراء ، وكذلك الطلاق يوجب ترتب العدة عقيبه ، واستصحابه لا يوجب ترتب العدة عقيبه ، ووضع اليد عدوانا يوجب التفسيق والتأثيم ، ولو جنى بعد ذلك وهي تحت يده لم يؤثم حينئذ ولم يفسق ، وابتداء العبادات يشترط فيها النيات ، وغيرها من التكبير ونحوه لا يشترط ذلك في استصحابها ، فعلمنا أن استصحاب الشيء لا يلزم أن يقوم مقامه ، لا سيما وموجب الضمان هو الأخذ عدوانا ، ولا يصدق عليه بعد زمن الأخذ أنه : أخذ الآن إلا على سبيل المجاز ، فحقيقة الأخذ تجري مجرى المناولة ، والحركات الخاصة لا يصدق شيء منه مع الاستصحاب ، فعلم أن سبب الضمان منفي في زمن الاستصحاب قطعا ، وإنما نضمنه الآن بسبب تقدم لا بسبب مقارن ، فاندفع ما ذكروه ، وأن القيمة إنما هي يوم الغصب ، زادت العين أو نقصت .

                                                                                                                تفريع : قال في الكتاب : فلو باعها فلم يعلم موضعها خيرت بين الثمن ; لأنه بيع فضولي لك إجازته ، وبين القيمة لأنه غاصب ، ولو قتلها أجنبي فلك قيمتها يوم القتل بخلاف الغاصب ، فإن نقصت قيمتها يومئذ عن يوم الغصب رجعت بالتمام على الغاصب ; لأن الغصب أوجب التمام عليه ، قال التونسي : وإذا كثرت قيمتها يوم الجناية ، ورجعت على الغاصب ، رجع الغاصب على الجاني بتمام القيمة ; لأنه بالضمان يملك بالجناية في الزيادة على ملكه فيرجع بالزيادة كما عليه النقص ، وقال أشهب : الزيادة للمغصوب منه ; لأن الغاصب عنده لا يرجع ويلزم على مذهب ابن القاسم لو كان على الغاصب غرماء لم يكن أحق بما أخذ من غرماء الغاصب ; لأنه إنما أخذ ذلك عن الغاصب من غريم الغاصب ، فهو أسوة غرماء الغاصب ، إلا أن يريد أن يندفع الضمان عن الغاصب فلا يتبعه ببقية القيمة ، ويكون أولى بما أخذ من الجاني من غرماء [ ص: 298 ] الغاصب ، وإذا باع الغاصب واستهلك المشتري فأجاز المستحق البيع وأخذ الثمن من الغاصب فذلك له ، فإن قال : آخذه من المشتري على الغاصب لم يكن ذلك له عند ابن القاسم ; لأنه إذا جاز البيع صار الغاصب كالوكيل على البيع ، وقيل : له أن يغرم المشتري الثمن ثانية ، والأشبه الأول ، وإن رجع على المشتري بقيمة ما استهلك وله خمسون ، والثمن مائة ، قال ابن القاسم : يرجع المشتري بجميع ثمنه فيأخذه من الغاصب ; لأن المستحق لما أخذ قيمة ملكه يوم الاستهلاك فكأنه أخذ عين شيئه فانتقض البيع من المشتري والغاصب ، فيرجع المشتري بجميع ثمنه ، وقال أشهب : يرجع المشتري بالخمسين التي أخذها منه الغاصب ، ويرجع المستحق بالخمسين الأخرى تمام الثمن ; لأن الغاصب لا يربح ، قال محمد : فإن كانت قيمته يوم الغصب مائة وعشرين وثمن المبيع مائة ، وقيمته يوم الجناية خمسين ، فأخذ المستحق خمسين من المشتري ، وهو قيمته يوم الجناية - لرجع المشتري بالثمن فقط على البائع ، ورجع عليه المستحق بتمام قيمة السلعة يوم الغصب ، وذلك سبعون ، وهذا أيضا بعيد ، فإن وهب الغاصب الثوب لمن أبلاه : قال ابن القاسم : يرجع المستحق على الواهب ، فإن لم يوجد أو كان عديما ، فعلى الموهوب له بقيمته يوم لبسه ، ثم لا تراجع بينهما ، لأنا متى قدرنا على إجازة هبة الغاصب فعلنا ، ويبدأ به ; لأنه متعد ، بخلاف الموهوب له لا يرجع عليه إلا عند قيام عذر ; لأنه وضع يده خطأ فيضمن . وقال محمد : يرجع على أيهما شاء ، وعنده لو كانت قيمته يوم اللبس أكثر من يوم الغصب فلا تراجع بينهم ، ولا للمستحق الرجوع على الموهوب بزيادة القيمة ، وعن أشهب : له الرجوع ، وبدأ ابن القاسم هاهنا بالغاصب دون الموهوب له . وقال فيمن استأجر عبدا ليبلغ له كتابا إلى بلد فعطب : إنه يضمن ، والفرق : أن الأول وهبه الغاصب رقبة فاستهلكها ، والثاني : إنما وضع يده على المنفعة ، والعبد لا يضمن منافعه للسيد ; لأنه ماله فيضمن من [ ص: 299 ] بعثه ; لأنه وضع يده مخطئا ، وقال ابن القاسم : فيمن اكترى دابة من غاصب وهو لا يعلم فهلكت : لا يضمن ; لأن الغاصب ضامن للدابة فلا يضمن واضع يده على المنافع ; لوجود من يضمن الرقبة ، والعبد لا يضمن لسيده ، فلذلك ضمن مستأجره ، وسوى بينهما محمد ، فإن أعتق المشتري العبد المستحق أجازه البائع ، فإن أجازه وقد نكح وورث نفذ جميع ذلك ; لأن المشتري لم يكن أصل عتقه عدوانا . وقد قال أشهب : فيما كان أصل عتقه عدوانا كالمكاتب يعتق عبدا له فيموت ، فيريد المشتري أن يجيز عتقه ويرثه : ذلك له ، وينبغي على مذهب ابن القاسم : لا يورث بالحرية ; لأن أصل عتقه عدوان كعتق المديان ، وانظر لو أعتقه الغاصب ، ثم جار به فلم يفت ، فأراد إلزامه القيمة . وقال الغاصب : لا . ينبغي أن لا يلزم ذلك الغاصب ، فإن عتقه باطل لوقوعه في غير ملك .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية