الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
لكن يا أخي بعد الوقوف [ ص: 25 ] على حقيقة الحال ، والاطلاع على ما حرره المتأخرون كصاحب البحر والنهر والفيض والمصنف وجدنا المرحوم وعزمي زاده وأخي زاده وسعدي أفندي والزيلعي والأكمل [ ص: 26 ] والكمال وابن الكمال ، مع تحقيقات سنح بها البال ، وتلقيتها عن فحول الرجال [ ص: 27 ] ويأبى الله العصمة لكتاب غير كتابه ، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه ، ومع هذا فمن أتقن كتابي هذا فهو الفقيه الماهر ، ومن ظفر بما فيه ، فسيقول بملء فيه : كم ترك الأول للآخر [ ص: 28 ] ومن حصله فقد حصل له الحظ الوافر ، لأنه هو البحر لكن بلا ساحل ، ووابل القطر غير أنه متواصل بحسن عبارات ورمز إشارات وتنقيح معاني ، وتحرير مباني ، وليس الخبر كالعيان ، [ ص: 29 ] وستقر به بعد التأمل العينان ، فخذ ما نظرت من حسن روضه الأسمى ، ودع ما سمعت عن الحسن وسلمى :

خذ ما نظرت ودع شيئا سمعت به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل



التالي السابق


( قوله : لكن يا أخي إلخ ) لما كان الإذن بالإصلاح مطلقا استدرك عليه بقوله بعد الوقوف وهو ظرف ليصلح كما أفاده ح : أي يصلح بعد [ ص: 25 ] وقوفه واطلاعه على هذه الكتب لا بمجرد الخطور بالبال . ويصح تعلقه بقوله وأن يتلافى تلافه . ويحتمل تعلقه بقوله فصرفت عنان العناية نحو الاختصار : أي إنما اختصرته بعد الوقوف على حقيقة الحال : أي حال المسائل ومعرفة ضعيفها من قويها ، ويدل له قوله : مع تحقيقات سنح إلخ ، ويدل للأول قوله : ويأبى الله إلخ أفاده ط ( قوله : على حقيقة الحال ) حقيقة الشيء : ما به الشيء هو هو كالحيوان الناطق للإنسان ، بخلاف مثل الضاحك والكاتب مما يمكن تصور الإنسان بدونه تعريفات السيد ( قوله : كصاحب البحر ) هو العلامة الشيخ زين بن نجيم وتقدمت ترجمته ( قوله : والنهر ) أي وكصاحب النهر ، وهو العلامة الشيخ عمر سراج الدين الشهير بابن نجيم ، الفقيه المحقق ، الرشيق العبارة الكامل الاطلاع ، كان متبحرا في العلوم الشرعية ، غواصا على المسائل الغريبة ، محققا إلى الغاية ، وجيها عند الحكام ، معظما عند الخاص والعام ، توفي سنة خمس بعد الألف ، ودفن عند شيخه وأخيه الشيخ زين محبي ملخصا ، وله كتاب إجابة السائل في اختصار أنفع الوسائل وغير ذلك ( قوله : والفيض ) أي وكصاحب الفيض وهو الكركي قال التميمي في طبقات الحنفية : إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل الكركي الأصل ، القاهري المولد والوفاة ، لازم التقي الحصني والتقي الشمني ، وحضر دروس الكافيجي ، وأخذ عن ابن الهمام ، وترجمه السخاوي في الضوء بترجمة حافلة ، وذكر أنه جمع في الفقه فتاوى في مجلدين ، وأن له حاشية على توضيح ابن هشام ا هـ ملخصا ، وتوفي سنة ( 923 ) وأراد بالفتاوى الفيض المذكور المسمى فيض المولى الكريم على عبده إبراهيم ، وقد قال في خطبته : وضعت في كتابي هذا ما هو الراجح والمعتمد ، ليقطع بصحة ما يوجد فيه أو منه يستمد ( قوله : والمصنف ) تقدمت ترجمته ( قوله : وجدنا المرحوم ) هو الشيخ محمد شارح الوقاية . ا هـ . ابن عبد الرزاق ، ولم أقف له على ترجمة ( قوله : وعزمي زاده ) هو العلامة مصطفى بن محمد الشهير بعزمي زاده ، أشهر متأخري العلماء بالروم ، وأغزرهم مادة في المنطوق والمفهوم ، ذو التآليف الشهيرة ، منها حاشية على الدرر والغرر وحاشية على شرح المنار لابن ملك ، توفي في حدود سنة أربعين بعد الألف محبي ملخصا ( قوله : وأخي زاده ) قال المحبي في تاريخه : هو عبد الحليم بن محمد الشهير المعروف بأخي زاده أحد أفراد الدولة العثمانية وسراة علمائها ، كان نسيجا وحده في ثقوب الذهن وصحة الإدراك والتضلع من العلوم . وله تآليف كثيرة منها شرح على الهداية ; وتعليقات على شرح المفتاح ; وجامع الفصولين والدرر والغرر والأشباه والنظائر وتوفي سنة ثلاث عشرة بعد الألف ا هـ ملخصا . وذكر ابن عبد الرزاق أن الذي في الخزائن أخي جلبي بدل أخي زاده ، وهو صاحب حاشية صدر الشريعة المسماة بذخيرة العقبي واسمه يوسف بن جنيد ، وهو تلميذ منلا خسرو . ا هـ . ( قوله : وسعدي أفندي ) اسمه سعد الله بن عيسى بن أمير خان الشهير بسعدي جلبي مفتي الديار الرومية ، له حاشية على تفسير البيضاوي وحاشية على العناية شرح الهداية ، ورسائل وتحريرات معتبرة ، ذكره حافظ الشام البدر الغزي العامري في رحلته ، وبالغ في الثناء عليه والتميمي في الطبقات . ونقل عن الشقائق النعمانية أنه توفي سنة ( 945 ) ( قوله : والزيلعي ) هو الإمام فخر الدين أبو محمد عثمان بن علي صاحب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ، قدم القاهرة سنة ( 705 ) وأفتى ودرس وصنف وانتفع الناس به كثيرا ونشر الفقه ، ومات بها سنة ( 743 ) ( قوله : والأكمل ) هو الإمام المحقق الشيخ أكمل الدين محمد بن محمود بن أحمد البابرتي . ولد في بضع عشرة وسبعمائة . وأخذ عن أبي حيان والأصفهاني ، وسمع الحديث من الدلاصي وابن عبد الهادي ، وكان علامة ذا فنون ، وافر [ ص: 26 ] العقل ، قوي النفس ، عظيم الهيبة ، أخذ عنه العلامة السيد الشريف والعلامة الفنري ، وعرض عليه القضاء فامتنع . له التفسير وشرح المشارق وشرح مختصر ابن الحاجب . وشرح عقيدة الطوسي والعناية شرح الهداية وشرح السراجية ، وشرح ألفية ابن معطي ، وشرح المنار وشرح تلخيص المعاني ، والتقرير شرح أصول البزدوي ، توفي سنة ( 786 ) وحضر جنازته السلطان فمن دونه ، ودفن بالشيخونية في مصر ( قوله : والكمال ) هو الإمام المحقق حيث أطلق محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد السيواسي ثم السكندري كمال الدين بن الهمام ولد تقريبا سنة ( 790 ) وتفقه بالسراج قارئ الهداية وبالقاضي محب الدين بن الشحنة ، لم يوجد مثله في التحقيق ، وكان يقول أنا لا أقلد في المعقولات أحدا . وقال البرهان الأبناسي وكأنه من أقرانه لو طلبت حجج الدين ما كان في بلدنا من يقوم بها غيره ، وكان له نصيب وافر مما لأصحاب الأحوال من الكشف والكرامات ، وكان تجرد أولا بالكلية ، فقال له أهل الطريق ارجع ، فإن للناس حاجة بعلمك ، وكان يأتيه الوارد كما يأتي السادة الصوفية لكنه يقلع عنه بسرعة لمخالطته للناس ، وشرح الهداية شرحا لا نظير له سماه فتح القدير ، وصل فيه إلى أثناء كتاب الوكالة ، وله كتاب التحرير في الأصول الذي لم يؤلف مثله وشرحه تلميذه ابن أمير حاج ، وله المسايرة في العقائد ، وزاد الفقير في العبادات . توفي بالقاهرة سنة ( 861 ) وحضر جنازته السلطان فمن دونه كما في طبقات التميمي ملخصا ( قوله : وابن الكمال ) هو أحمد بن سليمان بن كمال باشا ، الإمام العالم العلامة الرحلة الفهامة . كان بارعا في العلوم ، وقلما أن يوجد فن إلا وله فيه مصنف أو مصنفات دخل إلى القاهرة صحبة للسلطان سليم لما أخذها من يد الجراكسة ، وشهد له أهلها بالفضل والإتقان ، وله تفسير القرآن العزيز ، وحواش على الكشاف وحواش على أوائل البيضاوي وشرح الهداية لم يكمل والإصلاح والإيضاح في الفقه وتغيير التنقيح في الأصول وشرحه . وتغيير السراجية في الفرائض وشرحه وتغيير المفتاح وشرحه وحواشي التلويح وشرح المفتاح ، ورسائل كثيرة في فنون عديدة لعلها تزيد على ثلثمائة رسالة ، وتصانيف في الفارسية وتاريخ آل عثمان بالتركية وغير ذلك ، وكان في كثرة التآليف والسرعة بها وسعة الاطلاع في الديار الرومية كالجلال السيوطي في الديار المصرية . وعندي أنه أدق نظرا من السيوطي وأحسن فهما ، على أنهما كانا جمال ذلك العصر ، ولم يزل مفتيا في دار السلطنة إلى أن توفي سنة ( 940 ) . ا هـ . تميمي ملخصا ( قوله : مع تحقيقات ) حال من ما حرره : أي مصاحبا ما حرره هؤلاء الأئمة لتحقيقات ا هـ ح ، والمراد بها حل المعاني العويصة ، ودفع الإشكالات الموردة على بعض المسائل أو على بعض العلماء ، وتعيين المراد من العبارات المحتملة ونحو ذلك وإلا فذات الفروع الفقهية لا بد فيها من النقل عن أهلها . ( قوله : سنح بها البال ) في القاموس : سنح لي رأي كمنع سنوحا وسنحا وسنحا : عرض وبكذا عرض ولم يصرح ا هـ فعلى الأول هو من باب القلب مثل أدخلت القلنسوة في رأسي والأصل سنحت : أي عرضت بالبال أي في خاطري وقلبي ، وعلى الثاني لا قلب ; والمعنى عليه أن قلبي وخاطري عرض بها ولم يصرح ، وهذا ما جرت عليه عادته رحمه الله تعالى من التعريض بالرموز الخفية كما يشير إليه قريبا ( قوله : وتلقيتها ) أي أخذتها عن أشياخي عن فحول الرجال : أي الرجال الفحول الفائقين على غيرهم . في القاموس : الفحل الذكر من كل حيوان ، وفحول الشعراء الغالبون بالهجاء على من هاجاهم . ا هـ . قال ح : وأورد أن بين الجملتين ، تنافيا ، فإن البال إذا ابتكر هذه التحقيقات جميعها فكيف يكون متلقيا لها جميعها عن فحول الرجال ؟ وقد يجاب بأنه على تقدير مضاف : أي سنح ببعضها البال وتلقيت بعضها عن فحول الرجال ا هـ أي فهو على حد [ ص: 27 ] قوله تعالى - { ومن الجبال جدد بيض وحمر } - ( قوله : ويأبى الله العصمة إلخ ) أبى الشيء يأباه ويأبيه إباء وإباءة بكسرهما كرهه قاموس . وهذا اعتذار منه رحمه الله تعالى : أي إن هذا الكتاب وإن كان مشتملا على ما حرره المتأخرون وعلى التحقيقات المذكورة لكنه غير معصوم . أي غير ممنوع من وقوع الخطأ والسهو فيه . فإن الله تعالى لم يرض ، أو لم يقدر العصمة لكتاب غير كتابه العزيز الذي قال فيه - { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } - فغيره من الكتب قد يقع فيه الخطأ والزلل ، لأنها من تآليف البشر والخطأ والزلل من شعارهم . [ تنبيه ] قال الإمام العلامة عبد العزيز النجاري في شرحه على أصول الإمام البزدوي ما نصه : روى البويطي عن الشافعي رضي الله عنهما أنه قال له : إني صنفت هذه الكتب فلم آل فيها الصواب . ولا بد أن يوجد فيها ما يخالف ، كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى - { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } - فما وجدتم فيها مما يخالف كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإني راجع عنه إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال المزني : قرأت كتاب الرسالة على الشافعي ثمانين مرة ، فما من مرة إلا وكان يقف على خطأ . فقال الشافعي : هيه ، أبى الله أن يكون كتابا صحيحا غير كتابه . ا هـ . ( قوله : قليل . خطأ المرء ) أي خطأ المرء القليل . فهو من إضافة الصفة للموصوف . وعبر بالخطأ إشارة إلى أن ذلك واقع لا عن اختيار . فالإثم مرفوع والثواب ثابت ط ( قوله : في كثير صوابه ) متعلق بمحذوف حال من الخطأ : أي الخطأ القليل كائنا في أثناء الصواب الكثير أو باغتفر . وفي بمعنى مع . أو للتعليل أفاده ط . ولا يخفى ما في الجمع بين قليل وكثير وخطإ وصواب من الطباق ( قوله : ومع هذا ) أي مع ما حواه من التحريرات والتحقيقات . ا هـ . ح . قلت : والأولى جعله مرتبطا بقوله ويأبى الله . أي مع كونه غير محفوظ من الخلل فمن أتقنه كما تقول فلان بخيل ومع ذلك فهو أحسن حالا من فلان ط ( قوله : فهو الفقيه ) الجملة خبر من قرنت بالفاء لعموم المبتدأ فأشبه الشرط . والمراد بالفقيه من يحفظ الفروع الفقهية ويصير له إدراك في الأحكام المتعلقة بنفسه وغيره وسيأتي الكلام على معنى الفقه لغة واصطلاحا ط ( قوله : الماهر ) أي الحاذق قاموس ( قوله : ومن ظفر ) في القاموس : الظفر بالتحريك الفوز بالمطلوب ظفره وظفر به وعليه ( قوله : بما فيه ) أي من التحريرات والتحقيقات والفروع الجمة والمسائل المهمة ( قوله : فسيقول ) أتى بسين التنفيس لأن ذلك يكون عند السؤال أو للناظرة مع الإخوان غالبا ، أو أنها زائدة أفاده ط أو لأنه إنما يكون بعد اطلاعه على غيره من الكتب التي حررها غيره وطولها بنقل الأقوال الكثيرة والتعليلات الشهيرة ، وخلافيات المذاهب والاستدلالات من خلوها من تكثير الفروع والتعويل على المعتمد منها كغالب شروح الهداية وغيرها . فإذا اطلع على ذلك علم أن هذا الشرح هو الدرة الفريدة الجامع لتلك الأوصاف الحميدة ، ولذا أكب عليه أهل هذا الزمان في جميع البلدان . ( قوله : بملء فيه ) الملء بالكسر : اسم ما يأخذه الإناء إذا امتلأ وبهاء هيئة الامتلاء ومصدره ملء قاموس ، وفيه استعارة تصريحية حيث شبه الكلام الصريح الذي يستحسنه قائله ويرتضيه ، ولا يتحاشى عن الجهر به بما يملأ الإناء بجامع بلوغ كل إلى النهاية أو مكنية حيث شبه الفم بالإناء والملء تخييل . وهو كناية عن الإتيان بهذا القول جهرا بلا توقف ولا خوف من تكذيب طاعن ، وبين قوله فيه وفيه الجناس التام ( قوله : كم ترك الأول للآخر ) مقول القول وكم خبرية للتكثير [ ص: 28 ] مفعول ترك ، والمراد بالأول والآخر جنس من تقدم في الزمن ومن تأخر ، وهذا في معنى ما قاله ابن مالك في خطبة التسهيل : وإذا كانت العلوم منحا إلهية ، ومواهب اختصاصية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ، ما عسر على كثير من المتقدمين . ا هـ . وأنت ترى كتب المتأخرين تفوق على كتب المتقدمين في الضبط والاختصار وجزالة الألفاظ وجمع المسائل ، لأن المتقدمين كان مصرف أذهانهم إلى استنباط المسائل وتقويم الدلائل ; فالعالم المتأخر يصرف ذهنه إلى تنقيح ما قالوه ، وتبيين ما أجملوه ، وتقييد ما أطلقوه ، وجمع ما فرقوه ، واختصار عباراتهم ، وبيان ما استقر عليه الأمر من اختلافاتهم ، فهو كماشطة عروس رباها أهلها حتى صلحت للزواج ، تزينها وتعرضها على الأزواج ، وعلى كل فالفضل للأوائل كما قال القائل :

كالبحر يسقيه السحاب وما له فضل عليه لأنه من مائه

نعم فضل المتأخرين على أمثالنا من المتعلمين ، رحم الله الجميع وشكر سعيهم آمين ( قوله : الحظ ) أي النصيب ، والوافر : الكثير ( قوله : لأنه ) : تعليل للجمل الثلاثة قبله ، والضمير يرجع إلى الكتاب ط ( قوله : هو البحر ) تشبيه بليغ أو استعارة ( قوله : لكن بلا ساحل ) الساحل ريف البحر وشاطئه مقلوب ، لأن الماء سحله وكان القياس مسحولا قاموس ، وإذا كان لا ساحل له فهو في غاية الاتساع ، لأن نهاية البحر ساحله ، فهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم حيث أثبت صفة مدح واستثنى منها صفة مدح أخرى نحو { أنا أفصح العرب بيد أني من قريش } ، وهو آكد في المدح لما فيه من المدح على المدح والإشعار بأنه لم يجد صفة ذم يستثنيها فاضطر إلى استثناء صفة مدح . وله نوع ثان : وهو أن يستثني من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح ، كقوله :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب

أي في حدهن كسر من مضاربة الجيوش ، وهذا الثاني أبلغ كما بين في محله فافهم . وفيه أيضا من أنواع البديع نوع من أنواع المبالغة وهو الإغراق ، حيث وصف البحر بما هو ممكن عقلا ممتنع عادة ( قوله : ووابل القطر ) الوابل : الكثير ، وهو من إضافة الصفة للموصوف : أي القطر الوابل ط ( قوله : غير أنه متواصل ) أي تواصلا نافعا غير مفسد بقرينة المقام وإلا كان ذما ، وهذا أيضا من تأكيد المدح بما يشبه الذم ( قوله : بحسن عبارات ) الباء للتعليل مثل - فبظلم - أو للمصاحبة مثل اهبط بسلام - أو للملابسة وهي متعلقة بالبحر لأنه في معنى المشتق : أي الواسع مثل حاتم في قومه ، ومثل قول الشاعر :

أسد علي وفي الحروب نعامة

لتأوله بكريم وجريء أو بمحذوف حال من الضمير في لأنه أو من كتابي ( قوله : ورمز إشارات ) هما بمعنى واحد : وهو الإيماء بالعين أو اليد أو نحوهما كما في القاموس . فكأنه أراد ألطف أنواع الإيماء وأخفاها كما سيصرح به بعد بقوله : معتمدا في دفع الإيراد ألطف الإشارة . ( قوله : وتنقيح معاني ) أي تهذيبها وتنقيتها ، ويحتمل أنه من إضافة الصفة إلى الموصوف ، ومثله قوله : وتحرير مباني . وفي القاموس : تحرير الكتاب وغيره تقويمه ا هـ ومباني الكلمات : ما تبنى عليه من الحروف ، والمراد بها الألفاظ والعبارات ، من إطلاق الجزء على الكل ، وفي قوله المعاني والمباني مراعاة النظير : وهو الجمع بين أمر وما يناسبه ، لا بالتضاد نحو - { الشمس والقمر بحسبان } - ثم الموجود في النسخ رسمها بالياء مع أن القياس حذفها ، والوقف على النون ساكنة مثل { - فاقض ما أنت قاض } - ( قوله : وليس الخبر كالعيان ) بكسر العين : المعاينة والمشاهدة وهذه علة لمحذوف : أي أن ما قلته خبر يحتمل [ ص: 29 ] الصدق والكذب ، وبعد اطلاعك على التأليف المذكور تعاين ما ذكرته لك وتتحققه بالمشاهدة لأن الخبر ليس كالعيان أفاده ط وفي هذا الكلام اقتباس مما رواه أحمد والطبراني وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم " { ليس الخبر كالمعاينة } " وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم كما في المواهب اللدنية ، وتضمين لقول الشاعر :

يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما قد حدثوك فما راء كمن سمعا

( قوله : وستقر ) القر : بالضم البرد ، وعينه تقر بالكسر والفتح قرة وتضم وقرورا بردت وانقطع بكاؤها . أو رأت ما كانت متشوفة إليه قاموس ، وكأنه وصف العين بالبرودة ، لما قالوا من أن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة ( قوله : بعد التأمل ) أي التفكر فيه والتدبر في معانيه ط ( قوله : فخذ ) الفاء فصيحة : أي إذا كان كما وصفته لك أو إذا تأملته وقرت به عيناك فخذ إلخ . ثم اعلم أنه من هنا إلى قوله كيف لا وقد يسر الله ابتداء تبييض إلخ ساقط من كثير من النسخ ، وكأنه من إلحاقات الشارح ، فما نقل من نسخته قبل الإلحاق خلا عن هذه الزيادة ، والله تعالى أعلم . ( قوله : من حسن روضه ) الحسن الجمال جمعه محاسن على غير قياس قاموس . فهو اسم جامد لا صفة فالإضافة فيه لامية فافهم ، والأسمى أفعل تفضيل من السمو : أي الأعلى من غيره . قال ط : وفي الكلام استعارة شبه عبارته الحسنة بالروض بجامع النفاسة وتعلق النفوس بكل والقرينة إضافة الروض إلى الضمير ( قوله : عن الحسن ) الظاهر أنه بضم الحاء ، فالمعنى دع الحسن الصوري المحسوس وانظر إلى حسن روض هذا الشرح الأعلى قدرا . ا هـ . ح ( قوله : وسلمى ) امرأة من معشوقات العرب المشهورات كليلى ولبنى وسعدى وبثينة ومية وعزة ، وليس المراد بها المعنى العلمي ، وإنما المراد الوصفي لاشتهارها بالحسن كاشتهار حاتم بالكرم ، فيقال فلان حاتم بمعنى كريم ، فالمراد دع الجمال والجميل ( قوله : في طلعة ) خبر مقدم وما يغنيك مبتدأ مؤخر ; والمعنى أن طلعة الشمس : أي طلوعها يكفيك عن نور الكوكب المسمى بزحل ، نزل كتابه منزلة الشمس بجامع الاهتداء بكل ، ونزل غيره منزلة زحل ، ولا شك أن نور الشمس والاهتداء به لا يكون لغيرها من الكواكب ، وزحل أحد الكواكب السيارة التي هي السبع ، جمعها الشاعر على ترتيب السموات كل كوكب في سماء بقوله :

زحل شرى مريخه من شمسه فتزاهرت لعطارد الأقمار

ط ( قوله : هذا ) أي خذ هذا الذي ذكرته ، وأراد به الانتقال عن وصف الكتاب إلى التنبيه على عدم الاغترار بما يشنع به حساد الزمان المغيرون في وجوه الحسان :

كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسدا ولؤما إنه لدميم






الخدمات العلمية