الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 218 ] ( ويحكم بنجاستها ) مغلظة ( من وقت الوقوع إن علم ، وإلا فمذ يوم وليلة إن لم ينتفخ ولم يتفسخ ) وهذا ( في حق الوضوء ) والغسل ; وما عجن به فيطعم للكلاب ; وقيل يباع من شافعي ، أما في حق غيره كغسل ثوب فيحكم بنجاسته في الحال [ ص: 219 ] وهذا لو تطهر عن حدث أو غسل عن خبث ، وإلا لم يلزم شيء إجماعا جوهرة . ( ومذ ثلاثة أيام ) بلياليها ( إن انتفخ أو تفسخ ) استحسانا . وقالا : من وقت العلم فلا يلزمهم شيء قبله ، قيل وبه يفتى .

التالي السابق


( قوله مغلظة ) بيان لصفة النجاسة ، وقد مر أن التخفيف لا يظهر أثره في الماء ( قوله من وقت الوقوع ) أي وقوع ما مات فيها ( قوله إن علم ) أي الوقت أو غلب على الظن قهستاني ، ومنه ما إذا شهد رجلان بوقوعها يوم كذا كما في السراج ( قوله وإلا ) أي بأن لم يعلم أو لم يغلب على الظن نهر ( قوله وهذا ) أي الحكم بنجاسة البئر يوما وليلة ط ( قوله في حق الوضوء والغسل ) أي من حيث إعادة الصلاة يعني المكتوبة والمنذورة والواجبة وسنة الفجر . ا هـ حلية وسيأتي أن سنة الفجر إنما تقضى إذا فاتت مع الفرض في يومها قبل الزوال فافهم ( قوله وما عجن به ) معطوف على الوضوء ( قوله فيطعم للكلاب ) ; لأن ما تنجس باختلاط النجاسة به والنجاسة مغلوبة لا يباح أكله ويباح الانتفاع به فيما وراء الأكل كالدهن النجس يستصبح به إذا كان الطاهر غالبا فكذا هذا حلية عن البدائع ، ويفهم منه أن العجين ليس بقيد فغيره من الطعام والشراب مثله ، تأمل ( قوله وقيل يباع من شافعي ) ; لأنه يرى أن الماء لا ينجس إذا بلغ قلتين ، لكن في الذخيرة : وعن أبي يوسف لا يطعم بني آدم . ا هـ . ولهذا عبر عنه الشارح بقيل وجزم بالأول كصاحب البدائع ، ولعل وجهه أنه في اعتقاد الحنفي نجس ، ولا ينظر إلى اعتقاد غيره ، ولذا لو استفتاه عنه لا يفتيه إلا بما يعتقده ( قوله أما في حق غيره ) أي غير ما ذكر من الوضوء والغسل والعجين ( قوله فيحكم بنجاسته ) الأولى بنجاستها أي البئر كما عبر في البحر وقوله في الحال : أي حال وجود الفأرة مثلا ، لا من يوم وليلة ولا من وقت غسل الثياب ، ولهذا قال الزيلعي : أي من غير إسناد ; لأنه من باب وجود النجاسة في الثوب ، حتى إذا كانوا غسلوا الثياب بمائها لم يلزمهم إلا غسلها في الصحيح . ا هـ وعزاه في البحر إلى المحيط أيضا .

واعترضه بعض محشي صدر الشريعة بأنه إذا حكم بنجاسة البئر في الحال يلزم أن لا تتنجس الثياب التي غسلت بمائها قبله ، فلا يلزم غسلها فلا معنى لقوله لا يلزم إلا غسلها . ا هـ وكذا اعترضه في الحلية بما حاصله أنه إذا لزم غسل الثياب لكونها ، غسلت بماء هذا البئر فكيف لم يحكم على الثياب بالنجاسة مستندا إلى وقت غسلها المتيقن حصوله قبل وجود الفأرة ، وإنما اقتصر على وقت وجودها مع أنه لا يتجه على قول الإمام ; لأنه يوجب مع الغسل الإعادة ، ولا على قولهما ; لأنهما لا يوجبان غسل الثوب أصلا . ا هـ . وأقره في البحر والنهر وغيرهما .

وأقول - وبالله تعالى التوفيق - : ما قاله الزيلعي مخالف لإطلاق المتون قاطبة ، فإنهم حكموا بالنجاسة ولم يفصلوا بين الوضوء والثوب . وفي الهداية ومختصر القدوري : أعادوا صلاة يوم وليلة إذا كانوا توضئوا منها وغسلوا كل شيء أصابه ماؤها . ا هـ .

وفي شرح الجامع الصغير لقاضي خان : إن كانت منتفخة أعادوا صلاة ثلاثة أيام ولياليها ، وما أصاب الثوب منه في الثلاثة أفسده ، وإن عجن منه لم يؤكل خبزه . ا هـ ومثله في المنية وشرحها . ثم رأيت بعض محشي صدر الشريعة نقل ما نقلناه قال إنه المذكور في إعلام المعتبرات والمشهور في الرواية عن أبي حنيفة . ا هـ . فقد ظهر أن الصواب عدم الاقتصار على الحال وبه يزول الإشكال ، نعم أشار في الدرر إلى أن ما قاله الزيلعي ملفق من قول الإمام وقولهما حيث قال بعد نقله كلام الزيلعي : يؤيده ما قال في معراج الدراية أن الصباغي كان يفتي بهذا انتهى [ ص: 219 ] أي بهذا التفصيل . قال في البحر : كان الصباغي يفتي بقول أبي ح فيما يتعلق بالصلاة وبقولهما فيما سواه ، كذا في معراج الدراية . ا هـ .

وأقول : لا يخفى أن مقتضى ما أفتى به الصباغي أن تجب إعادة الصلاة ولا يجب غسل الثياب ، وهذا عكس ما قاله الزيلعي فأين التأييد ؟ نعم يظهر هذا التأييد على ما قال بعضهم إن حرف الاستثناء في عبارة الزيلعي زائد . أقول : وكذا وجدته ساقطا في نسخة قديمة مصححة ، وكذا وجدته في نسختي مضروبا عليه ، وقد ظهر بما قررناه أن ما ذكره الشارح من التفصيل تابع فيه الزيلعي ، وهو مخالف لما في عامة المعتبرات مع ما فيه من الإشكالات فلا يعول عليه وإن أقره في البحر والمنح ، ولهذا لم يعرج عليه في فتح القدير ، فاغتنم هذا التحرير الذي هو من منح العليم الخبير ( قوله وهذا لو تطهر إلخ ) الإشارة في عبارة الجوهرة إلى عبارة القدوري التي قدمناها ; ثم إن ما ذكره في الجوهرة عزاه إلى شيخه موفق الدين ، ثم قال : والمعنى فيه أن الماء صار مشكوكا في طهارته ونجاسته ، فإن كانوا محدثين بيقين لم يزل حدثهم بماء مشكوك فيه ، وإن كانوا متوضئين لا تبطل صلاتهم بماء مشكوك في نجاسته ; لأن اليقين لا يرتفع بالشك . ا هـ .

أقول : هذا أيضا مخالف لإطلاق عبارات المعتبرات من لزوم إعادة الصلاة وغسل كل شيء أصابه ماؤها في تلك المدة فإنه يشمل الإعادة عن حدث وغيره والغسل لثوب أو بدن من حدث أو نجاسة أو شرب أو غيره . وأيضا يناقضه مسألة العجين فإنه يلزم عليه أن يكون طاهرا حلالا لكونه كان طاهرا فلا تزول طهارته بماء مشكوك فيه مع أنه مخالف لما صرحوا به في عامة كتب المذهب . وأيضا فقد رجحوا قول الإمام بحكمه بالنجاسة من يوم أو ثلاثة أيام فإنه الاحتياط في أمر العبادة ، ولا يخفى أن هذا التفصيل خلاف الاحتياط ، فكان العمل على ما في كتب المذهب أولى .

مطلب مهم في تعريف الاستحسان ( قوله استحسانا ) الاستحسان كما قال الكرخي : قطع المسألة عن نظائرها لما هو أقوى ، وذلك الأقوى هو دليل يقابل القياس الجلي الذي تسبق إليه أفهام المجتهدين نصا كان أو إجماعا أو قياسا خفيا ، وتمامه في فتاوى العلامة قاسم ( قوله وقال إلخ ) قولهما هو القياس الجلي ، وبيان وجه كل في المطولات ( قوله فلا يلزمهم ) أي أصحاب البئر شيء من إعادة الصلاة أو غسل ما أصابه ماؤها كما صرح به الزيلعي وصاحب البحر والفيض وشارح المنية ، فقول الدرر بل غسل ما أصابه ماؤها ، قال في الشرنبلالية : لعل الصواب خلافه ( قوله قبله ) أي قبل العلم بالنجاسة ( قوله قيل وبه يفتى ) قائله صاحب الجوهرة . وقال العلامة قاسم في تصحيح القدوري : قال في فتاوى العتابي : قولهما هو المختار .

قلت : لم يوافق على ذلك ، فقد اعتمد قول الإمام البرهاني والنسفي والموصلي وصدر الشريعة ، ورجح دليله في جميع المصنفات ، وصرح في البدائع بأن قولهما قياس ، وقوله استحسان ، وهو الأحوط في العبادات . ا هـ




الخدمات العلمية