وقسم ابن القطان : النقض إلى أربعة أقسام
أحدها : أن تكون العلة منتقضة على أصل السائل والمسئول ، فلا خلاف أنه ليس للسائل أن يسأل عنها ، لأنهما قد اتفقا على إبطالها .
ثانيها : أن تكون صحيحة على أصلهما جميعا ، فلا خلاف أنه يلزم المسئول المصير إليها ، إلا أن يدفعها بوجه من وجوه الإبطال . كقول العراقي [ ص: 337 ] يسأل الشافعي عن فقال : لم تبطل صلاته قياسا على من وطئ في حجه ناسيا . لأنا قد اتفقنا على بطلانه ، لأنه لو تعمد بطل . المتكلم في الصلاة ساهيا أن يقول : هذا لا يلزم ، لأنه لا يصح على أصلي ، لأن من أصلي أن فللشافعي لم يبطل . ولو وطئ عامدا يبطل . وليس المقصود غير هذه العلة . فإن قال السائل : إني ألزمتك هذا لتقول به في كل فروعك ، فللمسئول أن يقول : لا يلزمني - لأن من شرط السائل أن يسلم للمسئول أصوله كلها ما خلا المسألة المختلف فيها . من وطئ في صومه وأكل ناسيا
وثالثها : أن تكون العلة جارية على أصل المسئول منتقضة على أصل السائل ، كالعراقي يسأل الشافعي عن فقال : لا . فقال له السائل : لم قلت بالجواز ؟ ويكون دليل ذلك أنا قد اتفقنا على أن يجوز لزوجها أن يقربها ، وكان المعنى في ذلك جواز الصوم لها ، وكل من جاز له الصوم جاز له القربان . فللشافعي أن يقول : لا يلزم ، لأن هذه العلة وإن كانت جارية على أصلي فهي باطلة على أصلك فلا يجوز لك إلزامها . وذلك أن دمها لو انقطع دون العشر عندك لجاز لها أن تصوم ولم يجز لزوجها أن يقربها . وقال الحائض إذا انقطع دمها هل يجوز للزوج أن يقربها ؟ : لا يجوز للمسئول أن ينقض علة السائل بأصل نفسه ، وأجازه بعض الحنفية ، وكان القاضي أبو الطيب الطبري الجرجاني منهم يستعمله . وذكره في تصنيفه المسمى ب " التهذيب " . قال القاضي : وسألت عن ذلك فقال : له وجه في الاحتمال ، مثل أن يقول : مهر المثل يتنصف بالطلاق قبل الدخول ، لأنه يستقر بالدخول ، فوجب أن يتنصف بالطلاق قبله أصله المسمى في العقد ، فيقول المسئول من أصحاب القاضي أبا بكر الأشعري : هذا ينتقض على أصلي بالمسمى بعد العقد ، فإنه يستقر بالوطء ولا يتنصف بالطلاق قبله وإنما يسقط جميعه كما يسقط جميع مهر المثل . أو يقول المخالف : لا يجب للمتوفى عنها زوجها السكنى ، لأنه لا نفقة لها ، قياسا على المعتدة من وطء الشبهة ، فيقول الشافعي : هذا ينتقض بالمطلقة البائن الحائل ، فإنه لا نفقة لها ويجب السكنى . [ ص: 338 ] أبي حنيفة
تنبيهات :
الأول : ، وأنه يتخلف عنها معلولها ، فأجازه كما يجري الخلاف في العلل الشرعية فكذلك يجري في العلل العقلية الفلاسفة ومنعه المتكلمون . حكاه ابن دقيق العيد رحمه الله . لكن الأستاذ حكى إجماع الجدليين على أن الدليل العقلي لا يخصص ، وعلى أن تخصيصه نقض له ، وعلى أن نقضه يمنع عن التعلق به ، ولذا قال : العلل العقلية لا يجوز تخصيصها بلا خلاف . ابن فورك
الثاني : أن هذه المسألة من فروع ، فإن جوزنا تخصيصها لم يتجه القدح بالنقض ، وإلا اتجه . القول بتخصيص العلة
الثالث : ادعى إمام الحرمين في " البرهان " أن الخلاف في هذه المسألة لفظي لا معنوي ، وهو ظاهر كلام ابن الحاجب أيضا ، وكذلك والبيضاوي الغزالي . وأنه يلتفت إلى تفسير العلة بماذا ؟ إن فسرت بالموجبة فلا تتصور عليتها مع الانتقاض ، أو المعرفة فتصورت وليس كذلك فليس الخلاف بلفظي . وله فوائد : ( إحداها ) جواز التعليل بعلتين أم لا ( الثانية ) أن من منع التخصيص لا يجوز أصلا تطرقه إلى نص الشارع على التعليل به . وإن أومئ إليه تبين أن ذلك لم يكن إيماء إلى التعليل لورود التخصيص . والمجوز للتخصيص يقول : يبقى ذلك علة في محله . ذكرها الغزالي في " المنخول " . ( الثالثة ) : انقطاع المستدل ، إن قلنا : يقدح ، وعدم انقطاعه إن منعناه .
الرابع : هل يسمع من الجدلي قولنا : أردت بالعموم الخصوص أو لا ؟ فالقائلون بتخصيص العلة يسمعونه ، والمانعون لا يسمعونه . وقد نقل [ ص: 339 ] إمام الحرمين في " تدريسه في أصول الفقه " علقه عنه بعض تلامذته ، أن الأستاذ أبا إسحاق قال : سائغ . وأما المعلل بلفظ عام فلا يقبل منه إذا نقض عليه كلامه وقال : إنما أردت كذا ، إذ لو جوزنا ذلك لما تصور إبطال علة أصلا . والفرق أن الواحد منا إنما يخاطب ليفهم صاحبه ويفهم عنه ، وصاحب الشرع له أن يبين ويؤخر البيان إلى وقت الحاجة ويخاطب بمحتمل ، ولا يجوز لواحد منا أن يعلل العلة مجملة ويفسرها . ( قال ) : ومن العلماء من جوز ذلك ( قال ) : ومجوزه لا يميز . انتهى . إطلاق اللفظ العام والمراد به البعض
وهذا الذي نقله عن الأستاذ قد يستشكل بما حكاه في " البرهان " عن الأستاذ أيضا أنه قال في علة الشارع : يجب اطرادها ولا يجوز أن يرد عليها ما يخالف طردها . وقد يجاب بأن ورودها في كلام الشارع يبين أنه لم يرد محل النقض وأنه إنما جعلها علة فيما وراءه ، وذلك مقبول منه ، بخلاف غيره فإنه لا يسمع منه قوله بعد الإطلاق : إنما أردت أنها علة فيما وراء ذلك المخرج . والحق أنه لا يسمع لأنه كالدعوى بعد الإقرار .
وقال صاحب " المحصول " : قولهم : إن الخلاف لفظي مردود ، لأنه إذا فسرنا العلة بالداعي أو بالموجب لم نجعل العدم جزءا من العلة ، بل كاشفا عن حدوث العلة ، ومن يجوز التخصيص لا يقول بذلك . وإن فسرنا بالأمارة ظهر الخلاف في المعنى ، لأن من أثبت العلة بالمناسبة بحث عن ذلك القيد العدمي ، فإن وجد فيه مناسبة صحح العلة وإلا أبطلها . ومن يجوز التخصيص لا يطلب المناسبة ألبتة من هذا القيد . وما ذكروا من تكرر وجود الغيم ولا مطر مع أن كونها أمارة لم يزل ، قد رده [ ص: 340 ] ابن السمعاني فقال : الأمارة وإن لم تزل إلا أنه لا بد أن تضعف ، ولا بد في الأمارة من توفر القوة من كل وجه ، لأن هذا ظن يثير حكما شرعيا ، فلا بد من بلوغه نهاية القوة ، وأن لا يتوهم قوة من الظن وراء قوته حتى يعلق به الحكم الشرعي ، وذلك لوجود الاطراد حتى لا تتخلف هذه الأمارة في موضع ما ، فإذا تخلفت لم تتوفر القوة من كل وجه ( قال ) : وهذا جواب حسن اعتمدته ، وهو محل الاعتماد .
الخامس : إذا ذكر علة فنقض عليه بما خص به النبي صلى الله عليه وسلم ، فهل يلزم ذلك ؟ فيه وجهان حكاهما . الشيخ أبو إسحاق
أحدهما : لا ، لأن المخصوص في حكم المنسوخ فلا تنقض العلة به .
والثاني : نعم ، لأن نقض العلة بحكم في الشرع ، فأشبه النقض بما لا يخص به .