السادس عشر : عند أن لا يكون عدما في الحكم الثبوتي الإمام الرازي وغيره وخالفه الآمدي . واعلم أنه يجوز بلا خلاف . وإنما اختلفوا في تعليل الوجودي بالعدمي على قولين : فذهب أكثر المتقدمين ، منهم تعليل الحكم العدمي بمثله [ ص: 189 ] والعدمي بالوجودي القاضي أبو بكر الطيب الطبري ، ، والشيخ أبو إسحاق إلى الجواز ، لأن لا معنى للعلة إلا المعرف وهو غير مناف للعدم . ومثاله علة تحريم متروك التسمية عدم ذكر اسم الله ، وذهب وأبو الوليد الباجي ، كما قاله القاضي أبو حامد المروروذي في " التبصرة " إلى المنع ، لأن الحكم لا يثبت إلا بوجود معنى يقتضي ثبوته ، والنفي عدم معنى فلا يجوز أن يوجب الحكم . والأولون يقولون : لا بد وأن يكون مناسبا ولأنه أشبه بالعلل العقلية . ومن حجة المانع أن العلة يجب أن تكون منشأ للحكمة كالسرقة المنصوبة علة للقطع ، فإنها منشأ الحكمة ، إذ كونها جناية ومفسدة إنما نشأ من ذاتها لا من خارج عنها . وهذا منازع فيه ، فإن العلة لا يشترط فيها ذلك ، بل يكفي كونها أمارة على الحكمة وحينئذ فالعدم يصلح أن يكون أمارة عليها ، وقد ساعد الخصم على جواز تعليل العدم بالعدم وهو اعتراف منه بإمكان جعل العدم أمارة ، وإذا أمكن ذلك في طرف العدم أمكن في الطرف الآخر لأن الظهور لا يختلف . الشيخ أبو إسحاق
وقال : أنكره قوم في العقليات والشرعيات ، وجوزه آخرون فيهما جميعا ، قال : وفصل أكثر أصحابنا فجوزه في الشرعيات دون العقليات . وقد قال الأستاذ أبو منصور - فيما رد على الشافعي العراقيين - في خراج البيع من غلة وثمرة وولد إن ذلك كله مما لم يقع عليه صفقة البيع . وقال في إباحة القصر : لمن لم يكن عزم على المقام وقال المزني إلكيا : إن كان الحكم من قبيل الأحكام الجزئية المبنية على الأصول تطرق القياس إليه من جهتي الإثبات والنفي ، كقولنا : لا كفارة على الأكل ولا على من أفطر ظنا وإن أمكن تلقيه من أمارة غير القياس لم يمتنع تلقيه من القياس . وقال الهندي : الحكم والعلة إما أن يكون ثبوتيين ، كثبوت الربا لعلة [ ص: 190 ] الطعم ، أو عدميين ، كعدم صحة البيع لعدم الرضا ، وهذان القسمان لا نزاع فيهما . هكذا ذكره الإمام ، وفيه نظر ، فإن من يجعل العلة ثبوتية ينبغي أن لا يجوز قياسها بالعدم ، سواء كان علة الحكم الثبوتي أو العدمي . وإما أن تكون العلة ثبوتية والحكم عدميا ، كعدم وجوب الزكاة لثبوت الدين وهذا القسم تسميه الفقهاء " تعليلا بالمانع " وهو مبني على جواز تخصيص العلة . واختلفوا في أنه هل من شرط وجود المقتضى أم لا ؟ وإما أن تكون العلة عدمية والحكم ثبوتيا ، كاستقرار الملك لعدم الفسخ في زمان الخيار ، وهذا موضع الخلاف ، والمشهور عدم الجواز . انتهى وممن اختاره الآمدي وصاحب " التنقيح " وابن الحاجب والإمام في " المعالم " واختار في " المحصول " الجواز وقال في " الرسالة البهائية " : إن كان الوصف ضابطا لحكمة مصلحة يلزم حصول المفسدة عند ارتفاعها كان عدم ذلك الوصف ضابطا لتلك المفسدة ، فيكون ذلك العدم مناسبا للحرمة .
وقال ابن المنير : المختار أن النفي لا يكون علة للحكم الثبوتي ولا للنفي ، لأن النفي المفروض علته لا يجوز أن يكون النفي المطلق باتفاق ، فتعين أن يكون نفيا مضافا إلى أمر ، وذلك الأمر إن كان منشأ مصلحة استحال أن يعلل بنفيه حكم ثبوتي ، إذ عدم المصلحة لا يكون علة في الحكم وإن كان منشأ مفسدة فهو مانع ، ونفي المانع لا يكون علة وإن كانت العلة بمعنى " المعرف " جاز أن يكون العدم علة للوجود . وإن كان المراد جميع ما يتوقف عليه الشيء جاز أن يكون بعض أجزاء العلة أمرا عدميا ، بدليل أن وجود الضد في المحل يقتضي عدم الضد الآخر في المحل ، فقد صار العدم جزءا من العلة ولكن يمتنع أن يكون جميع أجزائها عدميا لاستحالة كون العدم الصرف علة للأمر الوجودي والعلم به . وإن كان المراد بالعلة هو المعنى الموجود استحال أن يكون شيء من أجزائه عدميا ، لأن العدم لا يكون جزءا من العلة المعينة الموجودة والعلم به ضروري . [ ص: 191 ]
تنبيهات الأول
قال بعض المتأخرين : التحقيق أن محل الخلاف لا يتصور ، لأنه إن كان في العدم المحض الذي ليس فيه إضافة إلى شيء فلا يعلل به قطعا ، وإن كان في الأعدام المضافة فيصح أن يعلل بها قطعا ، كما تكون شروطا ، خصوصا في الشرعية فهي أمارات . فليتأمل . وجعل النصير الطوسي في " شرح التحصيل " الخلاف في العدم المقيد ، كما يقال : عدم المال علة الفقر ، أما المطلق فلا يعلل ولا يعلل به قطعا . الثاني
أن الخلاف يجري في الجزء أيضا ، فالمانعون اشترطوا أن لا يكون العدم جزءا من العلة كما يكون كلا . والمجوزون في الكل جوزوه في الجزء .
الثالث لو ورد من الشرع لفظ يدل بظاهره على نحو : أثبت حكم بهذا العدم كذا فقال ثبوت تعليل الثبوت بالعدم البزدوي - وهو من المانعين - : يتعين تأويل اللفظ وحمله على غير التعليل من تأقيت أو غيره ، جمعا بين الدليلين . ورد عليه بأن التعليل عنده عبارة عن نصب الأمارة خاصة ، فإذا حمل الكلام على التأقيت رجع إلى الأمارة فكأنه فر من التعليل فوقع في التعليل فرعان :
أحدهما : القائلون بأن العدم لا يعلل قالوا : إن المعدوم والموجود رتبة ثالثة وهي [ ص: 192 ] النسب والإضافات ، وجوزوا التعليل بها وقالوا : ليس من شروط العلة أن يكون أمرا وجوديا ، بل من شروطها ألا تكون عدمية ، ثم تارة تكون أمرا وجوديا ، وتارة تكون أمرا معلوما من قبيل النسب والإضافات . وبه يظهر المعنى في قولهم : " أن لا يكون عدميا " ولم يقولوا : " أن يكون وجوديا " . ومثاله قولنا : البنوة مقدمة على الأبوة ، وهذا علة الميراث وهما إضافيان ذهنيان لا وجود لهما في الأعيان . وقد اختلف في التعليل به ، فذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز . والحق ابتناء هذا الخلاف على أن الإضافيات من الأمور العدمية أو الوجودية ، فإن قلنا : عدمية فالكلام فيه كما سبق في العدمي ، وإن قلنا : وجودية فهي كالحكم الشرعي لأنه ليس فيه معنى مناسب فهو علة بمعنى الأمارة .
الثاني : الوصف التقديري هو كالعدمي ، لأنه معدوم في الخارج ، وإنما قدر له وجود للضرورة فيما يخرجه عن كونه عدميا تعليل ثبوت الولاء لمعتق عنه بتقدير ثبوت الملك له ، وتوريث الدية بتقدير ثبوت الملك للمقتول قبل موته في الزمن الفرد ، فإنه حي لا يستحقها ، وما لا يملك لا يورث عنه ، والملك بعد الموت محال ، فيصير تقدير الملك قبل الزهوق . والخلاف فيه أضعف من الخلاف في العدمي .
تنبيه
امتناع الشيء متى دار استناده إلى عدم المقتضى أو وجود المانع ، كان استناده إلى عدم المقتضى أولى ، لأنا لو أسندناه إلى وجود المانع لكان المقتضى قد وجد وتخلف أثره والأصل عدمه ، وهذا كتعليلهم عدم صحة بيع الصبي بعدم التكليف أولى من التعليل بالصبا . وفيه الخلاف في تعليلهم منع إطلاقهم [ ص: 193 ] كافر " على من أسلم باعتبار ما كان عليه ، فقال الجمهور : لوجود المانع الشرعي ، وقال : لعدم المقتضى وهو عدم المشتق منه حالة الإطلاق . ابن الحاجب