الشرط السابع : العكس .
وهو ، [ ص: 181 ] انتفاء الحكم لانتفاء العلة ، والمراد به انتفاء العلم أو الظن به
إذ لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول وإلى هذا الشرط والذي قبله أشار بقوله : لا تكون العلة علة حتى يقبل الحكم بإقبالها ويدبر بإدبارها . وقد اختلف في كونه شرطا ، أما العقلية فنقل الإمام أحمد إمام الحرمين في " مختصر التقريب " الإجماع على اشتراط الاطراد والانعكاس فيها ، لكن ذهب بعض المعتزلة إلى أنه لا يشترط عكسها واختاره الإمام فخر الدين ، فقال : وأما أصحابنا فإنهم أوجبوا العكس في العلل العقلية وما أوجبوه في الشرعية والدليل على عدم وجوبه في العقلية فذكره . ونقل القاضي بعد ذلك الاتفاق على عدم اشتراط العكس في الأدلة العقلية ، وظن بعضهم أنه مناقض لنقله أولا ، توهما منه أن الأدلة هي العلل ، وليس كذلك ، فإنه لا يشترط في الدليل الانعكاس ، والحاصل أن العلل العقلية كالأدلة السمعية . وأخذ صاحب " المعتمد " من النص السابق أنه يرى أن الطرد والعكس دليل على صحة العلة فقال : وصارت الأشعرية فيما حكاه ابن اللبان إلى أنه لا يدل على صحتها وإن كان من شروطها . إذا علمت ذلك فاختلفوا في الشرعي على مذاهب :
أحدها : ونقله الماوردي عن : أنه لا يشترط ، بل إذا ثبت الحكم بوجودها صحت وإن لم يرتفع بعدمها ، لأن المقصود بها إثبات الحكم دون نفيه ، كما يصح المعنى إذا اطرد ولم ينعكس . واختاره ابن أبي هريرة الإمام الرازي وأتباعه ، ونقله الصفي الهندي عن أكثر أصحابنا . [ ص: 182 ]
والثاني : يعتبر ، كالأدلة العقلية ، ولأن عدم التأثير في ارتفاعها دليل على عدم التأثير في وجودها . وقال الماوردي في باب الربا : إنه هو الصحيح .
والثالث : أنه يعتبر في المستنبطة دون المنصوصة .
والرابع : وهو المختار عند الغزالي إن تعددت العلة فلا يطالب بالعكس ، فإنا نجوز ازدحام العلل على حكم واحد ، فلا مطمع في العكس معه . وكذا إذا استند الحكم إلى حديث عام وقياس ، فقد لا يطرد القياس ويطرد الحديث فلا يطلب العكس وإن اتحدت العلة فلا بد من عكسها ، لأن انتفاء العلة يوجب انتفاء الحكم ، بل لأن الحكم لا بد له من علة ، فإذا اتحدت العلة وانتفت فلو بقي الحكم لكان ثابتا بغير سبب . أما حيث تعددت العلة فلا يلزم انتفاء الحكم عند انتفاء بعض العلل بل عند انتفاء جميعها . وأطال في الاحتجاج لذلك . قال في " المنخول " : فكأنما نقول : شرط العلة الانعكاس إلا لمانع . وقال الهندي : لا ينبغي أن يكون فيما ذكره الغزالي خلاف ونزاع لأحد . وبه يظهر أن هذه المسألة فرع تعليل الحكم الواحد بعلل مختلفة .
وقال إمام الحرمين : ذهبت طائفة إلى اشتراط الانعكاس جملة أي سواء قلنا باتحاد العلة أو بجواز اجتماعها . وآخرون إلى أنه لا يلزم فقال : أما التزام العكس مع اتحاد العلة وانتفاء توقيف مانع فلا بد منه عندنا . والإنصاف في ذلك أن يقال : إنه لازم في الاجتهاد ولا يحسن المطالبة به في المناظرة . وقال إمام الحرمين في تدريسه " في أصول الفقه : ثم الذين اشترطوا العكس اختلفوا : فمنهم من قال : لا بد من عكس على العموم كما [ ص: 183 ] شرطنا الاطراد عموما ، ومنهم من قال - وهو الأستاذ أبو إسحاق - يكتفي بالعكس ولو في صورة واحدة . وذكر ابن الحاجب أن اشتراط العكس مبني على منع التعليل للحكم بعلتين ، فمن منعه اشترط العكس في العلة لأنه حينئذ لا يكون للحكم إلا دليل واحد ، فيلزم انتفاء الحكم عند انتقاء دليله . وهذا البناء أشار إليه والبيضاوي إمام الحرمين في " مختصر التقريب " وحوم عليه الآمدي . وقد يقال : إن من يجوز التعليل بعلتين لعلة يشترط العكس ويقول عند انتفاء واحدة بانتفاء الحكم المضاف إليها وذلك متلقى من القول بتعدد الأحكام ، ومن لا يعلل إلا بواحدة يجوز انتفاء الحكم وبقاءه لا بعلة أصلا بل عن دليل [ من ] الشرع تعبدي فلم يكن انتفاء العلة الواحدة مستلزما لانتفاء الحكم .
وقال ابن المنير : حيث قلنا بامتناع تعدد العلل وإن العكس لازم فلا نعني بلزومه ما أراده مشترطوه ، بل نقول من الزهوق حكما بعلة فقيل له : قد وجد الحكم في صورة كذا بدون هذا الوصف فله أن يقول : لا ضير لأن العلة عندي إما الوصف الذي ذكرته أو أمر صادق على الوصف صدقا للعام على الخاص ، وأيا ما كان حصل الغرض من صدق العلة على الوصف ، لأنه إن كان علة باعتبار كونه أحد وصفين يصدق على كل منهما علة فقد صدق العلة على هذا الوصف . فحصل الغرض ، وإن كان الحكم ثابتا في صورة أخرى بدون هذا الوصف .
وهذا كشف الاضطراب في هذه المسألة ، فإن الذين اشترطوا العكس فهموا أنه من لوازم وجود العلة ولكن وهموا في اعتقادهم أن الوصف مهما صدق عليه العلة لزم أن ينتفي الحكم عند انتفائه ، وليس كذلك ، لاحتمال أن يكون معنى كون الوصف علة صدق العلة عليه كما يصدق العام على الخاص ، فلا يلزم من نفي الخاص نفي العام ، لاحتمال أن يوجد العام بوجود خاص آخر ، وإن لزم من وجود الخاص وجود العام . نعم ، يلزم من نفي [ ص: 184 ] الوصف نفي الحكم إذا كان صدق العلة عليه بمعنى أنه هو العلة باعتبار كونه هذا الوصف . وهذا إنما يتحقق إذا عرف الوصف والذين لم يشترطوا العكس فهموا أن بعض الأوصاف المتفق على عليتها ينتفي مع ثبوت الحكم فاعتقدوا العكس لغوا بالكلية ، وفاتهم أن العكس ما ثبت عند انتفاء العلة وإنما ثبت عند انتفاء وصف يصدق عليه العلة صدق العام على الخاص فلم يلزم من نفي الخاص نفي العام وهو العلة . نعم ، لو انتفى ذلك العام - وهو العلة - بانتفاء جميع الخاص لزم انتفاء الحكم قطعا .
ثم قال : والعكس - على المختار عندي - عبارة عن نفي الحكم عند نفي العلة .
وعلى مختار إمام الحرمين ، النفي علة للنفي . والسبب في هذا الاختلاف أن بعض العلل يستلزم نفيه وجود علة أخرى مشعرة بالنقض ، فيظن الظان أن ذلك لارتباط بين النفي ، والنفي ليس كذلك .