مسألة [ القياس في الأسباب ]
وهي مسألة القياس في الأسباب فنقل عن إذا أضيف حكم إلى سبب وعلمت فيه علة السبب فإذا وجدت في وصف آخر هل يجوز أن ينصب سببا ؟ أبي زيد الدبوسي وغيره المنع . وقالوا : الحكم يتبع العلة دون حكمة العلة ، فلا يجوز أن يجعل اللواط سببا للحد بالقياس على الزنى ، ولا النبش سببا للقطع قياسا على السرقة ، واختاره الآمدي وابن الحاجب وقال والبيضاوي الأصفهاني شارح " المحصول " إنه الأظهر . لكن المنقول عن أصحابنا جوازه ، واختاره الغزالي وإلكيا وعبارته : " معتقدنا جواز اعتبار السبب بالسبب بشرط ظهور عدم تفاوت السببين في المعنى المعتبر ، ثم في وضع الأسباب ثم صورة الأسباب لا يراعى عند ظهور التفاوت في مضمون السببين ، وقال في موضع آخر : منع الحنفية القياس في الأسباب ، وعندنا يسوغ كما إذا ثبت لنا أن القصاص وجب لزجر القاتل ، وثبت أن القتل [ ص: 86 ] صار سببا لمكان الحكمة لا لصورته ، فيجوز اعتبار المشتركين في القتل بالقتل وإن ثبت لنا أنه غير قاتل قال : وقد اعتبر المساقاة بالقراض لاستوائهما في مقصود التجار ومصلحة المتعاملين وهما سببان مختلفان ، وإن أمكن أن يقال : عموم الحاجة إلى القراض بخلاف المساقاة ، لكن جوابه أن المساقاة كانت أعم عند الشافعي العرب وهم قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومنه اعتبار الشهادة بالإكراه من جهة أن الشهادة يظهر إفضاؤها إلى القتل كالإكراه ، وإن كان للإكراه مزية من وجه فللشهادة مزية من وجه . ومنه ما قال الشافعي رحمه الله إن المرأة يلزمها الحج إذا وجدت نسوة ثقات يقع الأمن بمثلهن إلحاقا لهن بالمحرم والزوج فقاس أحد سببي الأمن على الثاني قال : وكذلك يجري في مثلهن في الشروط وقد نفى الشافعي رحمه الله اشتراط الإسلام في الإحصان إلحاقا له بالجلد فقال : الجلد أعلى أنواع العقوبات ثم استوى فيه إنكار المسلمين والكفار فالرجم كذلك وهو حسن . الشافعي
ثم قال : والضابط أن ما لم يوجد له نظير فلا يلحق به . فلهذا لم يلحق المرض بالسفر لأنا لا نعلم نظيرا له في الحاجة ، وهذا واضح . وقد قال رحمه الله تعالى : التقابض شرط في بيع الطعام بالطعام قياسا على النقدين وصح هذا القياس الشافعي بلا مدافع انتهى . وأما صاحب " الكبريت الأحمر " فنقل المنع في أصل ترجمة المسألة عن أصحابهم ثم قال : ومذهب للشافعي وأصحابه أن كل ما يمكن استعمال القياس فيه بشروطه وجب ما لم يمنع مانع ، وعن الشافعي أنه قال في اشتراط النية في الوضوء قياسا على التيمم : طهارتان فأنى يفترقان . انتهى . الشافعي
ومنهم من قال : إن قلنا : إن الأسباب والموانع والشروط أحكام شرعية جرى فيها القياس ، وإن قلنا : ليست بحكم شرعي ففي جريان القياس فيها نظر . قال رحمه الله : والأولى جريانه ، لأنا عقلنا أن الزنى إنما نسب [ ص: 87 ] سببا للرجم لعلة كذا ، ووجدناها في اللواط مثلا ، فيلزم نصب سببها . وكذلك هو في السرقة حتى يلحق بها نبش القبر وأخذ الأكفان فهذا إذا تم على شروطه قياس صحيح انتهى . القرطبي
وقد ألزموا المانع منع حمل النبيذ على الخمر من حيث إن خصوص وصف المحل لو اعتبر في محل الحكم لاقتضى منع توسيع الحكم ، وفي منع توسيعه رفع القياس أصلا . والمختار أنه يجوز أن يثبت سبب حكم قياسا على سبب آخر ، فإذا حكم الله برجم الزاني جاز أن يطلب سبب ذلك حتى يقف على سببه وهو الزنى ، فإذا ثبت أن الزنى علة الرجم صح أن يعلله بعلة تعديها إلى غير الزنى ، كما يجوز أن يعلل الحكم الثابت على زيد ويعدى إلى عمرو عند فهم المعنى المقتضي للتعدية ، فإنه جائز بالإجماع ، فكذا ما قبله . وقد أنكر أبو زيد الدبوسي هذا النوع من التعليل ، وقال : الحكم يتبع السبب دون حكمة السبب ، وإنما الحكم ثمرة وليس بعلة ، فلا يجوز أن يقال : جعل القياس سببا للقصاص للزجر والردع ، فينبغي أنه يجب القصاص على شهود القصاص إذا رجعوا لمسيس الحاجة إلى الزجر ، وإن لم يتحقق القتل إلى غير ذلك من الأسباب .
قال الإبياري في " شرح البرهان " : وهذا الذي قالوه يمكن أن ينزل على ثلاثة أوجه : إما أن يقولوا ذلك بناء على توقيف ثابت يمنع من القياس في هذه الحالة وحينئذ فيتبع وإما أن يقولوا : لم يثبت عندنا عموم شرعية القياس عند فهم المعاني فهذا يجر أنواعا من الخيال ، ويقتضي منع القياس إلا في مواضع الإجماع ، وقل أن يصادف ذلك بحال . وإما أن يقولوا : إن تعليل الأسباب يفوت به حقيقة القياس ، لأن من شرع القياس على الأصول تقريرها أصولا ، وفي تقرير الأسباب ما يخرجها عن كونها أسبابا قال : وهذا - والله أعلم - معتمد القوم .
وتقريره : أنا إذا قلنا : الزنى علة الرجم واستنبطنا منه إيلاج الفرج في الفرج المحرم قطعا إلى تمام القياس ، واعتبرنا اللفظ فقد أبان آخرا أن الزنى [ ص: 88 ] لم يكن علة ، وإنما العلة أمر أعم من الزنى فقد علل الزنى في كونه [ سببا ] بعلة أخرجت الزنى عن كونه سببا . ويمنع تعليل الأصول بما يخرجها عن كونها أصولا . هذا أعظم ما تمسكوا به في منع تعليل الأسباب ، وقد تحير الأصحاب في الجواب ، واعتذروا بأن ذلك يرجع إلى تنقيح مناط الحكم دون تخريجه . وقال بعض أصحابنا : الإنصاف يقتضي مساعدتهم على ذلك . وزعم أن الجاري في تعليل الأصحاب تنقيح المناط دون تخريجه وهذا هو اختيار الغزالي ، وقال : لا وجه غيره ، وأنه الحق .
وحاصل ما قاله الاعتراف بامتناع إجراء القياس في الأسباب ، لا لخصوص في التعبد ، ولا لتعذر فهم المعنى ، ولكن لاستحالة وجدان الأصل عند التعليل إذ يفوت القياس لفوات بعض أركانه ولا يبقى للقياس حقيقة ، ونحن نقول : الصحيح إجراء القياس على حقيقته في الأسباب ، ولا فرق في تصور القياس بين تعليل الأسباب وتعليل الأحكام . وبيانه هو أنه إذا حرمت الخمرة فهل حرمت باعتبار خصوصية وصفها وهو الخمرية حتى لا يتعدى الحكم إلى النبيذ بحال ، أو حرمت الخمر من جهة كونها مزيلة للعقل وهو الوصف الأعم ؟ فإنها إذا كانت أصلا باعتبار حكم الشرع فيها ، وقد بان لنا أنه إنما حكم فيها من جهة اشتدادها وإسكارها فكذلك إذا جعلنا الزنى علة الرجم فيقال : هل هو علة من جهة كونه زنى أو من جهة علة أخرى أعم من هذا ، أو لا علة وهو باطل فهذا هو المناقض . أما إذا جعل علة من بعض الجهات لم يخرج عن كونه علة مطلقا . هكذا ينبغي أن يفهم تعليل الأسباب ولا فرق بينه وبين تعليل الأحكام في الأصول السابقة .
قال : وهذه المسألة من أعظم مسائل الأصول فقد زل فيها الجماهير [ ص: 89 ] وأثبتوا القياس في الأسباب على وجه يخل بمقصود القياس .
وقال ابن المنير : أن الإجماع قام على أن الزنى سبب في الرجم ، والنص أومأ إلى ذلك أيضا ، فهل يجوز أن نقيس عليه اللواط في إثبات حكم السببية له فيكون سببا للرجم ، أو لا ؟ هذا محل الخلاف . ومنه قياس النبش على السرقة وللمانعين مسلكان : صورة القياس في الأسباب
أحدهما : أن الجمع بين السببين لا يتأتى إلا بحكمة السبب ، بخلاف الجمع بين الأصل والفرع ، فإنه يقع بالأوصاف . قالوا : والحكم خفية لا تنضبط ، والأوصاف ظاهرة منضبطة ، ولا يصح التعليل بما لا ينضبط ، فلو فرضنا انضباط الحكم ففي جواز التعليل بها خلاف ، فإن أجزناه فلا يقاس في الأسباب بل نقيس الفرع بالحكمة المنضبطة ، ويستغنى عن توسيط السبب ، وإن منعناه بطل القياس في السبب .
والثاني : أن القياس في الأسباب يؤدي إثباته إلى أصالته بخلاف القياس في الأحكام . وبيانه أن القياس في الأحكام يقرر الأصل أصلا ويلحق به فرعا ، والقياس في الأسباب يبطل كون السبب المقيس عليه سببا ، ويحقق أن السببية أمر أعم منه ، وهو القدر المشترك بين السببين ، ويؤول الأمر إلى أنه لا أصل ولا فرع فلا قياس ، فقياس النبيذ على الخمر لم يغير حكم الأصل ، ولا إضافة التحريم إليها ، وقياس اللواط على الزنى غير كون الزنى سببا وصير السبب ( الإيلاج ) المشترك بين المحلين ، فيصدق على الزنى أنه ليس بسبب إن فرضناه سببا .
وأما المجوزون فاحتجوا بأمر جلي وهو انسحاب الإجماع عليه لأن أهل الإجماع استرسلوا في الأقيسة ، ولو ذهبنا نشترط في كل صورة إجماعا خاصا بها لاستحال ، فالقياس في السبب كالقياس في الإجارة مثلا فلا يحتاج إلى إجماع خاص ( قال ) : وينبغي أن يرتفع الخلاف في هذه المسألة ; لأن [ ص: 90 ] الأسباب لا تنتصب بالاستنباط ، وإنما تنتصب بإيماء النص والإجماع ، وإذا فرضنا القياس في الأسباب فلا بد أن نفرض فيها جهة عامة كالإيلاج ، وجهة خاصة لكونه فرجا لآدمية ، وهو الذي يسمى زنى بلفظ السبب ، ويتناول أمرين أعم وأخص ، ولا ينتظم القياس إلا بحذف الأخص عن درجة الاعتبار ليتغير الأعم ، إذ لو كان الأخص باقيا على تقييده لاستحال القياس ، وإذا حذف الأخص عن كونه مراد اللفظ بقي الأعم وهو مراد النص ، وحينئذ يكون القياس في الأسباب تنقيح مناط ، وتنقيح المناط ، حاصله تأويل ظاهر ، وهو يتوقف على دليل ، فينبغي أن يقع الاتفاق على قبول المسلك الذي سماه من سماه قياسا في الأسباب ، لاتفاقنا على قبول تأويل الظاهر بالدليل ، فلا حجر في التسمية ، ولا منع من تسميته قياسا ، لأن فيه صورة النطق في موضع والسكوت في موضع ، ووجود قدر مشترك بين الموضعين وهو سبب الاشتراك في الحكم ، غير أن امتياز المحلين نطقا وسكوتا إنما كان مبنيا على الظاهر الذي قام أنه غير مراد ، فلهذا تكدرت التسمية والخطب يسير .