الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) شرائط الوجوب فأنواع : منها أن يكون الرجوع بعد القضاء ، فإن كان قبله لا يجب الضمان لما ذكرنا : أن الركن في وجوب الضمان بالشهادة وقوع الشهادة إتلافا ، ولا تصير إتلافا إلا إذا صارت حجة ولا تصير حجة إلا بالقضاء فلا تصير إتلافا إلا به .

                                                                                                                                ( ومنها ) مجلس القضاء فلا عبرة بالرجوع عند غير القاضي كما لا عبرة بالشهادة عند غيره ، حتى لو أقام المدعى عليه البينة على رجوعهما لا تقبل بينته ، وكذا لا يمين عليهما إذا أنكر الرجوع إلا إذا حكيا عند القاضي رجوعهما عند غيره فيعتبر رجوعهما ; ; لأن ذلك بمنزلة إنشاء رجوعهما عند القاضي فكان معتبرا .

                                                                                                                                ( ومنها ) أن يكون المتلف بالشهادة عين مال حتى لو كان منفعة لا يجب الضمان ; لأن الأصل أن المنافع غير مضمونة بالإتلاف عندنا ، وعلى هذا يخرج ما إذا شهدا أنه تزوج هذه المرأة بألف درهم ، ومهر مثلها ألفان ، وهي تنكر فقضى القاضي بالنكاح بألف درهم ، ثم رجعا لا يضمنان للمرأة شيئا ; ; لأنهما أتلفا عليها منفعة البضع .

                                                                                                                                والمنفعة ليست بعين مال حقيقة ، وإنما يعطى لها حكم الأموال بعارض عقد الإجارة وكذا لو ادعت امرأة على رجل أنه طلقها على ألف درهم ، والزوج ينكر فشهد شاهدان فقضى القاضي ثم رجعا لم يضمنا للزوج شيئا ; ; لأنهما بشهادتهما [ ص: 286 ] أتلفا على الزوج المنفعة لا عين المال ، وعلى هذا لو ادعى رجل أنه استأجر هذه الدابة من فلان بعشرة دراهم ، وأجر مثلها مائة درهم ، والمؤجر ينكر فشهد شاهدان وقضى القاضي .

                                                                                                                                ثم رجعا لا يضمنان للمؤجر شيئا ; ; لأنهما بشهادتهما أتلفا المنفعة لا عين المال ( ومنها ) أن يكون إتلاف المال بغير عوض ، فإن كان بعوض لا يجب الضمان ، سواء كان العوض عين مال أو منفعة لها حكم عين المال ; ; لأن الإتلاف بعوض يكون إتلافا صورة لا معنى ، وعلى هذا يخرج ما إذا ادعى رجل على رجل أنه باع عبده منه بألف درهم ، والمشتري ينكر فشهد شاهدان بذلك وقضى القاضي ، ثم رجعا : أنه ينظر إن كانت قيمة العبد ألفا أو أكثر فلا ضمان عليهما للمشتري ; ; لأن شهادتهما وقعت إتلافا بعوض ، فلا يكون إتلافا معنى فلا يوجب الضمان ، وإن كانت قيمته أقل من ألف يضمنان الزيادة له لوقوع الشهادة إتلافا بقدر الزيادة ، ولو كانت الدعوى من المشتري والمسألة بحالها ، إن كانت قيمته مثل الثمن المذكور أو أقل لا ضمان على الشاهدين للبائع لما قلنا ، وإن كانت قيمته أكثر من ألف يضمنان الزيادة للبائع ; ; لأن شهادتهما وقعت إتلافا بغير الزيادة وعلى هذا يخرج ما إذا ادعت امرأة على رجل أنه تزوجها على ألف درهم ، والرجل ينكر فشهد لها شاهدان بذلك ، وقضى القاضي بالنكاح بألف ، ثم رجعا : أنه ينظر إن كان مهر مثلها ألفا أو أكثر من ذلك لم يضمنا للزوج شيئا وإن أتلفا عليه عين المال ; ; لأنهما أتلفاها بعوض له حكم عين المال ، وهو البضع ; ; لأنه يعتبر مالا حال دخوله في ملك الزوج بدليل أن الأب يملك أن يزوج من ابنه امرأة ولو لم يعتبر البضع مالا حال دخوله في ملك الزوج لما ملك ; ; لأن الأب لا يملك على ابنه معاوضة مال بما ليس بمال ، وكذلك المريض إذا تزوج امرأة على ألف درهم ، وذلك مهر مثلها ، لا يعتبر من الثلث بل من جميع المال ، ولو لم يكن البضع في حكم المال في حال الدخول في ملك الزوج لاعتبر من الثلث كالتبرع ، دل أن البضع يعتبر مالا في حق الزوج حال دخوله في ملكه فكان الإتلاف بعوض هو في حكم عين المال ، فلا يكون إتلافا معنى ، وإن كان مهر مثلها أقل من ألف درهم يضمنان الزيادة على مهر المثل للزوج ; ; لأنهما أتلفا الزيادة عليه من غير عوض أصلا .

                                                                                                                                وهذا بخلاف ما إذا ادعى رجل على امرأة أنه طلقها بألف درهم ، والمرأة تنكر فشهد شاهدان بذلك وقضى القاضي عليها بألف درهم ، ثم رجعا : أنهما يضمنان للمرأة ألف درهم ; ; لأنهما أتلفا عليها عين المال بغير عوض أصلا ; ; لأن البضع حال خروجه عن ملك الزوج لا يعتبر مالا بدليل أن الأب لا يملك أن يخلع من ابنته الصغيرة على مال ، ولو فعل وأدى من مالها يضمن ولو كان مالا لملك ; لأنه يملك عليها معاوضة مال بمال ، وكذلك المريضة إذا اختلعت من نفسها حال مرضها على مال يعتبر من الثلث كالوصية ، ولو كان له حكم المال لاعتبر من جميع المال ، كما في سائر معاوضات المال بالمال ، وإذا لم يكن له حكم المال حال الخروج عن ملك الزوج حصلت شهادتهما إتلافا عليهما من عوض أصلا فيجب الضمان وعلى هذا يخرج ما إذا ادعى رجل أنه آجر داره من فلان شهرا بعشرة دراهم ، والمستأجر ينكر فشهد شاهدان بذلك ، وقضى القاضي ، ثم رجعا ، فأما إن كان في أول المدة ينظر ، إن كان أجرة الدار مثل المسمى لا ضمان عليهما للمستأجر ، ولو أتلفا عليه عين مال لكن بعوض ، له حكم عين المال ، وهو المنفعة ; ; لأن المنفعة في باب الإجارة لها حكم عين المال ، وإن كانت أجرة مثلها أقل من المسمى فإنهما يضمنان الزيادة ; لأن التلف بقدر الزيادة حصل بغير عوض أصلا ، وإن كانت الدعوى بعد مضي مدة الإجارة فعليهما ضمان الأجرة ; ; لأنهما أتلفا عليه من غير عوض أصلا ، فكان مضمونا عليهما .

                                                                                                                                وعلى هذا يخرج ما إذا شهد شاهدان على القاتل : أنه صالح ولي القتيل على مال ، والقاتل ينكر فقضى القاضي بذلك ، ثم رجعا أنهما لا يضمنان شيئا للقاتل ; لأنهما أتلفا عليه عين مال بعوض ، وهو النفس ; لأن النفس تصلح أن تكون عوضا بدليل أن المريض وجب عليه القصاص فصالح الولي على الدية جاز ، ولا تعتبر من الثلث ، بل من جميع المال ، ولو لم تصلح النفس عوضا لاعتبر من الثلث ، دل أن هذا إتلاف بعوض فلا يوجب الضمان إلا إذا شهدا على الصلح بأكثر من الدية فيضمنان الزيادة على الدية للقاتل ; ; لأن تلف الزيادة حصل بغير عوض ، ويمكن تخرج هذه المسائل على فصل التسبب ; لأن ما قابله عوض ، لا يكون إتلافا معنى ، فلم يوجد سبب وجوب الضمان فلا يجب فافهم ذلك .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية