الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) .

                                                                                                                                الذي يرجع إلى المكفول به .

                                                                                                                                فنوعان أحدهما أن يكون المكفول به مضمونا على الأصيل سواء كان دينا أو عينا أو نفسا أو فعلا ليس بدين ولا عين ولا نفس عند أصحابنا إلا أنه يشترط في الكفالة بالعين أن تكون مضمونة بنفسها وجملة الكلام فيه أن المكفول به أربعة أنواع عين ودين ونفس وفعل ليس بدين ولا عين ولا نفس أما العين فنوعان عين هي أمانة وعين هي مضمونة أما العين التي هي أمانة فلا تصح الكفالة بها سواء كانت أمانة غير واجبة التسليم كالودائع ومال الشركات والمضاربات أو كانت أمانة واجبة التسليم كالعارية والمستأجر في يد الأجير لأنه أضاف الكفالة إلى عينها وعينها ليست بمضمونة .

                                                                                                                                ولو كفل بتسليم المستعار والمستأجر عن المستعير والمستأجر جاز لأنهما مضمونا التسليم عليهما فالكفالة أضيفت إلى مضمون على الأصيل وهو فعل التسليم فصحت ( وأما ) العين المضمونة فنوعان مضمون بنفسه كالمغصوب والمقبوض بالبيع الفاسد والمقبوض على سوم الشراء ومضمون بغيره كالمبيع قبل القبض والرهن فتصح الكفالة بالنوع الأول لأنه كفالة بمضمون بنفسه ألا ترى أنه يجب رد عينه حال قيامه ورد مثله أو قيمته حال هلاكه فيصير مضمونا على الكفيل على هذا الوجه أيضا ولا تصح بالنوع الثاني لأن المبيع قبل القبض مضمون بالثمن لا بنفسه ألا ترى أنه إذا هلك في يد البائع لا يجب عليه شيء ولكن يسقط الثمن عن المشتري وكذا الرهن غير مضمون بنفسه بل بالدين ألا ترى أنه إذا هلك لا يجب على المرتهن شيء ولكن يسقط الدين عن الراهن بقدره .

                                                                                                                                ( وأما ) الفعل فهو فعل التسليم في الجملة فتجوز الكفالة بتسليم المبيع والرهن لأن المبيع مضمون التسليم على البائع والرهن مضمون التسليم على المرتهن في الجملة بعد قضاء الدين فكان المكفول به مضمونا على الأصيل وهو فعل التسليم فصحت الكفالة به لكنه إذا هلك لا شيء على الكفيل لأنه لم يبق مضمونا على الأصيل فلا يبقى على الكفيل .

                                                                                                                                ولو استأجر دابة للحمل فكفل رجل بالحمل فإن كانت الدابة بعينها لم تجز الكفالة بالحمل وإن كانت بغير عينها جازت لأن في الوجه الأول الواجب على الآجر فعل تسليم الدابة دون الحمل ، فلم تكن الكفالة بالحمل كفالة بمضمون على الأصيل فلم تجز وفي الوجه الثاني الواجب عليه فعل الحمل دون تسليم الدابة فكانت الكفالة بالحمل كفالة بفعل هو مضمون على الأصيل فجازت وعلى هذا إذا كفل بنفس من عليه الحق جاز عند أصحابنا لأن الكفالة بالنفس كفالة بالفعل وهو تسليم النفس وفعل التسليم مضمون على الأصيل فقد كفل بمضمون على الأصيل فجاز وكذا إذا كفل برأسه أو بوجهه أو برقبته أو بروحه أو بنصفه والأصل فيه أنه إذا أضاف الكفالة إلى جزء جامع كالرأس والوجه والرقبة ونحوها جازت لأن هذه الأجزاء يعبر بها عن جملة البدن فكان ذكرها ذكرا للبدن كما في باب الطلاق والعتاق وكذا إذا أضاف إلى جزء شائع كالنصف والثلث ونحوهما جازت لأن حكم الكفالة بالنفس وجوب تسليم النفس بثبوت ولاية المطالبة والنفس في حق وجوب التسليم لا [ ص: 8 ] تتجزأ وذكر بعض ما لا يتجزأ شرعا ذكر لكله كما في الطلاق والعتاق وإذا أضافها إلى اليد أو الرجل ونحوهما من الأجزاء المعينة لا تجوز لأن هذه الأعضاء لا يعبر بها عن جميع البدن وهي في حكم الكفالة متجزئة فلا يكون ذكرها ذكرا لجميع البدن كما في الطلاق والعتاق .

                                                                                                                                ولو قال في الكفالة بالنفس هو علي جاز لأن هذا صريح في التزام تسليم النفس وكذا إذا قال أنا ضامن لوجهه لأن الوجه جزء جامع .

                                                                                                                                ولو قال أنا ضامن لمعرفته لا تصح لأن المعرفة لا تحتمل أن تكون مضمونة على الأصيل ولو قال للطالب أنا ضامن لك لم يصح لأن المضمون غير معلوم أصلا ثم ما ذكرنا من الكفالة بالنفس والعين والفعل أنها صحيحة وما ذكرنا من التفريعات عليها مذهب أصحابنا وقال الشافعي رحمه الله إنها غير صحيحة .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن الكفالة أضيفت إلى غير محلها فلا تصح ودلالة ذلك أن الكفالة التزام الدين فكان محلها الدين فلم توجد ، والتصرف المضاف إلى غير محله باطل ولأن القدرة على تسليم المكفول به شرط جواز الكفالة ، والقدرة على الإعتاق لا تتحقق .

                                                                                                                                ( ولنا ) قوله عز وجل { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } أخبر الله عز شأنه عن الكفالة بالعين عن الأمم السالفة ولم يغير والحكيم إذا حكى عن منكر غيره ولأن هذا حكم لم يعرف له مخالف من عصر الصحابة والتابعين إلى زمن الشافعي رحمه الله فكان الإنكار خروجا عن الإجماع فكان باطلا ولما ذكرنا أن هذه الكفالة أضيفت إلى مضمون على الأصيل مقدور الاستيفاء من الكفيل فتصح أصله الكفالة بالدين وقوله الكفالة التزام الدين ممنوع بل هي التزام المطالبة بمضمون على الأصيل وقد يكون ذلك دينا وقد يكون عينا والعين مقدورة التسليم في حق الأصيل كالدين عبد مقر بالرق في يد رجل فأخذ منه المولى كفيلا بنفسه فأبق فهو باطل لأنه كفل بما ليس بمضمون وكذا لو كفل بعد إباقه لما قلنا وكذا لو ادعى رجل على إنسان أنه عبده وأنكر المدعى عليه وزعم أنه حر وكفل رجل بنفسه حتى لو أقام البينة على أنه عبده فمات المدعى عليه لا شيء على الأصيل لما ذكرنا

                                                                                                                                ولو كان المدعى في يد ثالث فقال أنا ضامن لك قيمة هذا إن استحققته صحت الكفالة حتى لو أقام البينة على أنه عبده فمات المدعى عليه فالكفيل ضامن كل قيمته لأن بإقامة البينة تبين أنه كفل بمضمون صبي في يد رجل يدعي أنه ابنه وادعى رجل آخر أنه عبده فضمن له إنسان فأقام المدعي البينة وقد مات الصبي فالكفيل ضامن لما ذكرنا أنه لما قامت البينة تبين أنه كفيل بمضمون وعن محمد فيمن ادعى على إنسان أنه غصبه عبدا فقبل أن يقيم البينة قال رجل أنا ضامن بالعبد الذي يدعي فهو ضامن حتى يأتي بالعبد فيقيم البينة عليه لأنه كفل بمضمون على الأصيل وهو إحضاره مجلس القاضي فإن هلك واستحقه ببينة فهو ضامن لقيمته لأنه تبين أنه كفل بمضمون بعين مضمونا بنفسه ولو ادعى أنه غضبه ألف درهم واستهلكها أو عبدا ومات في يده فقال رجل خله فأنا ضامن المال أو لقيمة العبد فهو ضامن يأخذه به من ساعته ولا يقف على إقامة البينة لأن بقوله أنا ضامن لقيمة العبد أقر بكون القيمة واجبة على الأصيل فقد كفل بمضمون على الأصيل فلا يقف على البينة بخلاف الفصل الأول لأن هناك ما عرف وجوب القيمة بإقراره بل بإقامة البينة فتوقف عليها ، والنوع الثاني أن يكون المكفول به مقدور الاستيفاء على الكفيل ليكون العقد مفيدا فلا تجوز الكفالة بالحدود والقصاص لتعذر الاستيفاء من الكفيل فلا تفيد الكفالة فائدتها وههنا شرط ثالث لكنه يخص الدين وهو أن يكون لازما فلا تصح الكفالة عن المكاتب لمولاه ببدل الكتابة لأنه ليس بدين لازم لأن المكاتب يملك إسقاط الدين عن نفسه بالتعجيز لا بالكسب بمضمون وتجوز الكفالة بنفس من عليه القصاص في النفس وما دونها وبحد القذف والسرقة إذا بذلها المطلوب فأعطاه بها كفيلا بلا خلاف بين أصحابنا وهو الصحيح لأنه كفالة بمضمون على الأصيل مقدور الاستيفاء من الكفيل فتصح كالكفالة بتسليم نفس من عليه الدين وإنما الخلاف أنه إذا امتنع من إعطاء الكفيل عند الطلب هل يجبره القاضي عليه قال أبو حنيفة لا يجبره وقال ، أبو يوسف ومحمد يجبره .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما أن نفس من عليه القصاص والحد مضمون التسليم عليه عند الطلب كنفس من عليه الدين ثم تصح الكفالة بنفس من عليه الدين ويجبر عليها عند الطلب فكذا هذا ولأبي حنيفة أن الكفالة شرعت [ ص: 9 ] وثيقة والحدود مبناها على الدرء فلا يناسبها التوثيق بالجبر على الكفالة ولا يلزمه الحبس في الحدود والقصاص قبل تزكية الشهود والحبس توثيق لأن الحبس للتهمة لا للتوثيق لأن شهادة شاهدين أو شاهد واحد لا تخلو عن إيراث تهمة فكان الحبس لأجل التهمة دون التوثيق ويجوز الجبر على إعطاء الكفيل في التعزير لأنه لا يحتال لدرئه لكونه حق العبد .

                                                                                                                                ( وأما ) الدين فتصح الكفالة به بلا خلاف لأنه مضمون على الأصيل مقدور الاستيفاء من الكفيل .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية