الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وذكر محمد في كتاب الرهن إذا رهن أحدهما متاعا من الشركة بدين عليها ، لم يجز وكان ضامنا للرهن ولو ارتهن بدين لهما أداناه وقبض ، لم يجز على شريكه وذلك محمول على ما إذا رهن أحدهما بدين عليهما وجب بعقدهما ; لأن الرهن إيفاء ، وكل واحد منهما لا يملك أن يوفي دين الآخر من ماله إلا بأمره ، فلا يملك الرهن والارتهان ، واستيفاء أحدهما لا يملك استيفاء ثمن ما عقده شريكه لنفسه ، فلا يملك ارتهانه ، فإن هلك في يده وقيمته والدين سواء ، ذهب بحصته ; لأنه قبض الرهن بعقد فاسد ، والرهن الفاسد يكون مضمونا كالصحيح ، فكان مستوفيا حصته من الدين ; لأنه كان يملك استيفاء حصته من الدين قبل الارتهان وإن وليه غيره ، فإذا ارتهنه بجميع ذلك صار مستوفيا لجميع الدين ، فيصير مستوفيا حصته صورة ، فذهب الرهن بحصته ، وشريكه بالخيار إن شاء رجع بحصته على المطلوب ، ويرجع المطلوب بنصف قيمة الرهن على المرتهن ، وإن شاء ضمن شريكه حصته من الدين ; لأن قبض الرهن قبض استيفاء الدين ، فإذا هلك في يده تقرر استيفاء كل الدين ، ومن استوفى كل الدين المشترك بغير إذن شريكه ; كان لشريكه أن يرجع على الغريم بحصته ، ويرجع الغريم على القابض بما قبضه ; لأنه إنما سلم إليه ليملك ما في ذمته بما سلم ، ولم يملك ، فكان له أن يرجع ، كذا هنا ، للمطلوب أن يرجع بنصف قيمة الرهن على المرتهن ، وإن شاء الشريك رجع عليه بنصف دينه ; لما ذكرنا أن أحد الشريكين إذا استوفى الدين المشترك كله ، كان للشريك الآخر أن يرجع عليه بنصيبه ، وطريق ذلك أن نصف المقبوض وقع للقابض ولشريكه أن يشاركه فيه ، ومتى شاركه فيه ، فللقابض أن يرجع على المطلوب بذلك ، ثم يشاركه في ذلك أيضا ، هكذا يستوفي هو ويشاركه الآخر إلى أن يستوفيا الدين ، طعن عيسى بن أبان في هذه المسألة وقال : يجب أن لا يضمن الشريك نصيب شريكه ; لأن محمدا قال : لو قال رجل لرجل : أعطني رهنا بدين فلان الذي عليك فإن أجازه جاز وإن لم يجزه فلا ضمان علي فأعطاه وهلك الرهن في يده لم يضمن ، وهذا الطعن في غير موضعه لأن ذلك الرجل جعل الرهن في يد العدل ; لأنه لما أخذ رهنا لغيره ، وشرط أن لا ضمان عليه ، فقد صار عدلا ، وهلاك الرهن في يد العدل لا يوجب الضمان ; لأن قبضه ليس بقبض استيفاء ، وههنا إنما قبضه للاستيفاء ، والرهن المقبوض للاستيفاء مضمون ، فلم يصح الطعن ، وله أن يحتال لأن الحوالة من أعمال التجارة ; لأن التاجر يحتاج إليها لاختلاف الناس في الملاءة والإفلاس وكون بعضهم أملأ من بعض ، وفي العادة يختار الأملأ فالأملأ ، فكانت الحوالة وسيلة إلى الاستيفاء فكانت في معنى الرهن في التوثق للاستيفاء ; ولأن الاحتيال تمليك ما في الذمة بمثله ; فيجوز كالصرف ، وحقوق عقد تولاه أحدهما ترجع إلى العاقد حتى لو باع أحدهما لم يكن للآخر أن يقبض شيئا من الثمن ، وكذلك كل دين لزم إنسانا بعقد وليه أحدهما ليس للآخر قبضه ، وللمديون أن يمتنع من دفعه إليه كالمشتري من الوكيل بالبيع له أن يمتنع عن دفع الثمن إلى الموكل لأن القبض من حقوق العقد ، وحقوق العقد تعود إلى العاقد ; لأن المديون لم يلتزم الحقوق للمالك ، وإنما التزمها العاقد ، فلا يلزمه ما لم يلتزمه إلا بتوكيل العاقد ، فإن دفع إلى الشريك من غير توكيل برئ من حصته ، ولم يبرأ من حصة الدائن وهذا استحسان ، والقياس أن لا يبرأ الدافع .

                                                                                                                                ( وجه ) القياس أن حقوق العقد لا تتعلق بالقابض بل هو أجنبي عنها وإنما تتعلق بالعاقد ، فكان الدافع إلى القابض بغير حق ، فلا يبرأ .

                                                                                                                                ( وجه ) الاستحسان أنه لا فائدة في نقض هذا القبض إذ لو نقضناه لاحتجنا إلى إعادته لأن المديون يلزمه دفعه إلى العاقد ، والعاقد يرد حصة الشريك إليه ، فلا يفيد القبض ثم الإعادة في الحال ، وهذا على القياس والاستحسان في الوكيل بالبيع إذا دفع المشتري الثمن إلى الموكل من غير إذن الوكيل لا يطالب الشريك بتسليم المبيع لما قلنا ، وليس [ ص: 71 ] لأحدهما أن يخاصم فيما أدانه الآخر أو باعه والخصومة للذي باع ، وعليه ليس على الذي لم يل من ذلك شيء ، فلا يسمع عليه بينة فيه ولا يستحلف وهو والأجنبي في هذا سواء ; لأن الخصومة من حقوق العقد ، وحقوق العقد تتعلق بالعاقد ولو اشترى أحدهما شيئا لا يطالب الآخر بالثمن ، وليس للشريك قبض المبيع لما قلنا ، وللعاقد أن يوكل وكيلا بقبض الثمن والمبيع فيما اشترى وباع لما ذكرنا فيما تقدم ، ولأحدهما أن يقايل فيما باعه الآخر لأن الإقالة فيها معنى الشراء وأنه يملك الشراء على الشركة ، فيملك الإقالة وما باعه أحدهما أو اشترى فظهر عيب لا يرد الآخر بالعيب ولا يرد عليه لأن الرد بالعيب من حقوق العقد ، وإنها ترجع إلى العاقد والرجوع بالثمن عند استحقاق المبيع على البائع ; لأنه العاقد فإن أقر أحدهما بعيبه في متاع جاز إقراره عليه وعلى صاحبه قال الكرخي : وهذا قياس قول أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف رحمهم الله وفرق بين هذا وبين الوكيل إذا أقر بالعيب فرد القاضي المبيع عليه أنه لا ينفذ إقراره على الموكل حتى يثبت ، بالبينة ; لأن موجب الإقرار بالعيب ثبوت حق الرد عليه ولأحد الشريكين أن يقايل فيما باعه الآخر لأن الإقالة فيها معنى الشراء وأنه يملك الشراء إلى أن يسترد المبيع ويقبل العقد ، والوكيل لا يملك ذلك فإن باع أحدهما متاعا من الشركة ، فرد عليه فقبله بغير قضاء القاضي جاز عليهما ; لأن قبول المبيع بالتراضي من غير قضاء بمنزلة شراء مبتدإ بالتعاطي ، وكل واحد منهما يملك أن يشتري ما باعه على الشركة وكذا القبول من غير قضاء القاضي بمنزلة الإقالة ، وإقالة أحدهما تنفذ على الآخر ، وكذا لو حط من ثمنه أو أخر ثمنه لأجل العيب ، فهو جائز ; لأن العيب يوجب الرد ومن الجائز أن يكون الصلح والحط أنفع من الرد ، فكان له ذلك وإن حط من غير علة أو أمر يخاف منه جاز في حصته ولم يجز في حصة صاحبه ; لأن الحط من غير عيب تبرع ، والإنسان يملك التبرع من مال نفسه لا من مال غيره ، وكذلك لو وهب ; لأن الهبة تبرع ولكل واحد منهما أن يبيع ما اشتراه ، وما اشترى صاحبه مرابحة على ما اشترياه ; لأن كل واحد منهما وكيل لصاحبه بالشراء والبيع ، والوكيل بالبيع يملك البيع مرابحة وهل لأحدهما أن يسافر بالمال من غير رضا صاحبه ؟ ذكر الكرخي أنه ليس له ذلك والصحيح من قول أبي يوسف ومحمد أن له ذلك وكذا المضارب والمبضع والمودع لهم أن يسافروا .

                                                                                                                                وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه ليس للشريك والمضارب أن يسافر وهو قول أبي يوسف ، وروي عن أبي يوسف أن له المسافرة إلى موضع لا يبيت عن منزله ، وروي عنه يسافر أيضا بما لا حمل له ولا مؤنة ولا يسافر بما له حمل ومؤنة .

                                                                                                                                ( وجه ) ظاهر قول أبي يوسف أن السفر له خطر ، فلا يجوز في ملك الغير إلا بإذنه .

                                                                                                                                ( وجه ) الرواية التي فرق فيها بين القريب والبعيد ، أنه إذا كان قريبا بحيث لا يبيت عن منزله ، كان في حكم المصر .

                                                                                                                                ( وجه ) الرواية التي فرق فيها بين ما له حمل ومؤنة ، وما ليس له حمل ومؤنة ، أن ما له حمل إذا احتاج شريكه إلى رده ، يلزمه مؤنة الرد فيتضرر به ، ولا مؤنة تلزمه فيما لا حمل له .

                                                                                                                                ( وجه ) قول أبي حنيفة ومحمد أن الإذن بالتصرف يثبت مقتضى الشركة ، وأنها صدرت مطلقة عن المكان ، والمطلق يجري على إطلاقه إلا لدليل ، ولهذا جاز للمودع أن يسافر ، على أنه في معنى المودع ; لأنه مؤتمن في مال الشركة كالمودع في مال الوديعة مع ما أن الشريك يملك أمرا زائدا لا يملكه المودع ، وهو التصرف ، فلما ملك المودع السفر ; فلأن يملكه الشريك أولى وقول أبي يوسف إن المسافرة بالمال مخاطرة به ، مسلم ، إذا كان الطريق مخوفا ( فأما ) إذا كان آمنا ، فلا خطر فيه بل هو مباح ; لأن الله سبحانه وتعالى أمر بالابتغاء في الأرض من فضل الله ، ورفع الجناح عنه بقوله تعالى عز شأنه { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } ، وقال عز شأنه { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } مطلقا من غير فصل وما ذكر من لزوم مؤنة الرد فيما له حمل ومؤنة ، فلا يعد ذلك غرامة في عادة التجار ; لأن كل مؤنة تلزم تلحق برأس المال ، هذا إذا لم يقل كل واحد منهما لصاحبه : اعمل في ذلك برأيك ، فأما إذا قال ذلك ، فإنه يجوز لكل واحد منهما المسافرة والمضاربة والمشاركة ، وخلط مال الشركة بمال له خاصة ، والرهن والارتهان مطلقا ; لأنه فوض الرأي إليه في التصرف الذي اشتملت عليه الشركة مطلقا ، وإذاسافر أحدهما بالمال ، وقد أذن له بالسفر ، أو قيل له : اعمل برأيك ، أو عند إطلاق الشركة على الرواية الصحيحة عن أبي حنيفة ومحمد فله أن ينفق من جملة المال على نفسه في [ ص: 72 ] كرائه ونفقته وطعامه وإدامه من رأس المال ، روى ذلك الحسن عن أبي حنيفة وقال محمد وهذا استحسان ، والقياس أن لا يكون له ذلك ; لأن الإنفاق من مال الغير ، لا يجوز إلا بإذنه نصا .

                                                                                                                                ( وجه ) الاستحسان العرف والعادة ; لأن عادة التجار الإنفاق من مال الشركة ، والمعروف كالمشروط ; ولأن الظاهر هو التراضي بذلك ; لأن الظاهر أن الإنسان لا يسافر بمال الشركة ، ويلتزم النفقة من مال نفسه لربح يحتمل أن يكون ويحتمل أن لا يكون ; لأنه التزام ضرر للحال لنفع يحتمل أن يكون ويحتمل أن لا يكون فكان إقدامهما على عقد الشركة دليلا على التراضي بالنفقة من مال الشركة ، ولأن كل واحد منهما في مال صاحبه كالمضارب ; لأن ما يحصل من الربح فهو فرع جميع المال ، وهو يستحق نصف الربح شائعا كالمضارب ، فتكون النفقة من جميع المال كالمضارب إذا سافر بمال نفسه وبمال المضاربة ، كانت نفقته في جميع ذلك ، كذا هذا وقال محمد : فإن ربحت حسبت النفقة من الربح وإن لم يربح كانت النفقة من رأس المال ; لأن النفقة جزء تالف من المال ، فإن كان هناك ربح فهو منه ، وإلا فهو من الأصل كالمضارب ، وما اشتراه أحدهما بغير مال الشركة ، لا يلزم صاحبه ، لما ذكرنا أنه يصير مستدينا على مال الشركة ، وصاحبه لم يأذن له بالاستدانة ، وليس لأحدهما أن يهب ، ولا أن يقرض على شريكه ; لأن كل واحد منهما تبرع .

                                                                                                                                ( أما ) الهبة فلا شك فيها .

                                                                                                                                ( وأما ) القرض ; فلأنه لا عوض له في الحال ، فكان تبرعا في الحال ، وهو لا يملك التبرع على شريكه ، وسواء قال : اعمل برأيك ، أو لم يقل إلا أن ينص عليه بعينه ; لأن قوله اعمل برأيك تفويض الرأي إليه فيما هو من التجارة ، وهذا ليس من التجارة ولو استقرض مالا لزمهما جميعا ; لأنه تملك مال بالعقد ، فكان كالصرف ، فيثبت في حقه وحق شريكه ; ولأنه إن كان الاستقراض استعارة في الحال ، فهو يملك الاستعارة ، وإن كان تملكا يملكه أيضا ، وليس له أن يكاتب عبدا من تجارتهما ، ولا أن يعتق على مال ; لأن الشركة تنعقد على التجارة ، والكتابة والإعتاق ليسا من التجارة ، ألا ترى أنه لا يملكهما المأذون في التجارة ، وسواء قال : اعمل برأيك ، أو لا ; لما قلنا وليس له أن يزوج عبدا من تجارتهما ، في قولهم جميعا ; لأنه ليس من التجارة وهو ضرر محض ، فلا يملكه إلا بإذن نصا ، وكذلك تزويج الأمة في قول أبي حنيفة ومحمد ; لأنه ليس من التجارة ، ويجوز عند أبي يوسف ، والمسألة تقدمت في كتاب النكاح .

                                                                                                                                ولو أقر بدين لم يجز على صاحبه لأن الإقرار حجة قاصرة ، فلا يصدق في إيجاب الحق على شريكه بخلاف المفاوضة ; لأن الجواز في المفاوضة بحكم الكفالة لا بالإقرار ، وهذه الشركة لا تتضمن الكفالة ولو أقر بجارية في يده من تجارتهما ، أنها لرجل لم يجز إقراره في نصيب شريكه ، وجاز في نصيبه ، لما ذكرنا أن إقرار الإنسان ينفذ على نفسه لا على غيره ; لأنه في حق غيره شهادة ، وسواء كان قال له : اعمل برأيك أو لا ; لأن هذا القول يفيد العموم فيما تتضمنه الشركة ، والشركة لم تتضمن الإقرار ، وما ضاع من مال الشريك في يد أحدهما ، فلا ضمان عليه في نصيب شريكه ، فيقبل قول كل واحد من الشريكين على صاحبه في ضياع المال مع يمينه ; لأنه أمين والله عز وجل أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية