الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                فإن كان ذلك بسبب فنقول لا يخلو إما أن ادعيا الملك بسبب واحد من الإرث أو الشراء أو النتاج ونحوها وإما أن ادعياه بسببين فإن ادعيا الملك بسبب واحد فإن كان السبب هو الإرث فإن لم توقت البينتان فهو بينهما نصفان لما ذكرنا أن الملك الموروث هو ملك الميت بعد موته وإنما الوارث يخلفه ويقوم مقامه في ملكه ألا ترى أنه يجهز من التركة ويقضى منها ديونه ويرد الوارث بالعيب ويرد عليه فكان المورثين حضرا وادعيا ملكا مطلقا عن الوقت وإن وقتا وقتا فإن كان وقتهما واحدا فكذلك لما مر وإن كان أحد الوقتين أسبق يقضى لمن هو أسبق وقتا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد رحمه الله يقضى بينهما نصفين ولا عبرة للتاريخ عنده في الميراث لما مر أن الموروث ملك الميت والوارث قام مقامه فلم يكن الموت تاريخا لملك الوارث فسقط التاريخ لملكه والتحق بالعدم فبقي دعوى الملك المطلق عن التاريخ فيستويان فيه وعن محمد أنهما إن لم يؤرخا ملك الميتين فكذلك فأما إذا أرخا ملك الميتين فيقضى لأسبقهما تاريخا ذكره في نوادر هشام .

                                                                                                                                وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله يقولان بل الوارث بإقامة البينة يظهر الملك للمورث لا لنفسه فيصير كأنه حضر المورثان وأقام كل واحد منهما بينة مؤرخة وتاريخ أحدهما أسبق ولو كان كذلك لقضي لأسبقهما وقتا لإثباته الملك في وقت لا تعارضه فيه بينة الآخر كذا هذا ولو وقتت إحداهما ولم توقت الأخرى يقضى بينهما نصفين بالإجماع أما عند محمد فإن التاريخ في باب الميراث ساقط فالتحق بالعدم وأما عندهما فيصير كأن المورثين الخارجين حضرا وادعيا ملكا فأرخه أحدهما ولم يؤرخه الآخر وهناك كان المدعى بينهما نصفين فكذا هنا لأنهما ادعيا تلقي الملك من رجلين ولا عبرة فيه بالتاريخ وإن كان السبب هو الشراء فنقول لا تخلو إما أن تكون الدار في يد ثالث وإما أن تكون في يد أحدهما وكل ذلك لا يخلو إما أن ادعيا الشراء من واحد وإما إن ادعياه من اثنين فإن كانت في يد ثالث وادعيا الشراء من واحد فإن كان صاحب اليد وأقاما البينة على الشراء منه بثمن معلوم ونقد الثمن مطلقا عن التاريخ وذكر القبض يقضى بينهما نصفين عندنا وللشافعي فيه قولان في قول تتهاتر البينتان وفي قول يقرع بينهما فيقضى لمن خرجت له القرعة وهي مسألة التهاتر وقد تقدمت .

                                                                                                                                وإذا قضي بالدار بينهما نصفين يكون لهما الخيار إن شاء أخذ كل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن وإن شاء نقض لأن غرض كل واحد منهما من الشراء الوصول إلى جميع المبيع ولم يحصل فأوجب ذلك خللا في الرضا فلذلك أثبت لهما الخيار فإن اختار كل واحد منهما أخذ نصف الدار رجع على البائع بنصف الثمن لأنه لم يحصل له إلا نصف المبيع وإن اختار الرد رجع كل واحد منهما بجميع الثمن لأنه انفسخ البيع فإن اختار أحدهما الرد والآخر الأخذ فإن كان ذلك بعد قضاء القاضي وتخييره إياهما فليس له أن يأخذ إلا النصف بنصف الثمن لأن حكم القاضي بذلك أوجب انفساخ العقد في حق كل واحد منهما في النصف فلا يعود إلا بالتحديد كما إذا قضى القاضي بالدار المشفوعة للشفيعين ثم سلم أحدهما الشفعة لا يكون لصاحبه إلا نصف الدار فأما إذا اختار أحدهما ترك الخصومة قبل تخيير القاضي فللآخر أن يأخذ جميع المبيع بجميع الثمن لأن المستحق بالعقد كل البيع والامتناع بحكم المزاحمة فإذا انقطعت فقد زال المانع كأحد الشفيعين إذا سلم الشفعة قبل قضاء القاضي بالدار المشفوعة يقضى لصاحبه بالكل وكذلك إذا ادعى كل واحد منهما الشراء من رجل آخر سوى صاحب اليد وأقام البينة على ذلك يقضى بالدار بينهما نصفين عندنا وثبت الخيار لكل واحد منهما والكلام في توابع الخيار على نحو ما بينا غير أن هناك الشهادة القائمة على الشراء من صاحب اليد وهو البائع تقبل من غير ذكر الملك له والشهادة القائمة على الشراء من غير صاحب اليد لا تقبل إلا بذكر الملك للبائع لأن المبيع في الفصل الأول في يد البائع [ ص: 238 ] واليد دليل الملك فوقعت الغنية عن ذكره وفي الفصل الثاني المبيع ليس في يد البائع فدعت الحاجة إلى ذكره لصحة البيع هذا إذا لم تؤرخ البينتان فأما إذا أرختا فإن استوى التاريخان فكذلك لسقوط اعتبارهما بالتعارض فبقي دعوى مطلق الشراء .

                                                                                                                                وإن كانت إحداهما أسبق تاريخا كانت أولى بالإجماع لأنها تظهر الملك في وقت لا تعارضها فيه الأخرى فتندفع بها الأخرى ولو أرخت إحداهما وأطلقت الأخرى فالمؤرخة أولى لأنها تظهر الملك في زمان معين والأخرى لا تتعرض للوقت فتحتمل السبق والتأخير فلا تعارضها مع الشك والاحتمال ولو لم تؤرخ البينتان ولكن ذكرت إحداهما القبض فهي أولى لأنها لما أثبتت قبض المبيع جعل كأن بيع صاحب القبض أسبق فيكون أولى وكذلك لو ذكرت إحداهما تاريخا والأخرى قبضا فبينة القبض أولى إلا أن تشهد بينة التاريخ أن شراءه قبل شراء الآخر فيقضى له ويرجع الآخر بالثمن على البائع وكذا لو أرخا تاريخا واحدا وذكرت إحداهما القبض فبينة القبض أولى إلا إذا كان وقت الآخر أسبق هذا إذا ادعيا الشراء من واحد وهو صاحب اليد أو غيره فأما إذا ادعيا الشراء من اثنين سوى صاحب اليد مطلقا عن الوقت وأقاما البينة على ذلك يقضى بينهما نصفين لأنهما ادعيا تلقي الملك من البائعين فقاما مقامهما فصار كأن البائعين الخارجين حضرا وأقاما البينة على ملك مطلق ولو كان كذاك يقضى بينهما نصفين كذا هذا ويثبت لهما الخيار والكلام في الخيار على نحو ما ذكرنا ولو وقتت البينتان فإن كان وقتهما واحدا فكذلك وإن كان أحدهما أسبق من الآخر فالأسبق تاريخا أولى عند أبي حنيفة وأبي يوسف وكذا عند محمد في رواية الأصول بخلاف الميراث أنه يكون بينهما نصفان عنده .

                                                                                                                                ووجه الفرق له ذكره الداري وهو أن المشتري يثبت الملك لنفسه والوارث يثبت الملك للميت .

                                                                                                                                وعن محمد في الإملاء أنه سوى بين الميراث والشراء وقال لا عبرة بالتاريخ في الشراء أيضا إلا أن يؤرخا ملك البائعين وإن وقتت إحداهما ولم توقت الأخرى يقضى بينهما نصفين ولا عبرة للتاريخ أيضا فرق بين هذا وبين ما إذا ادعيا الشراء من رجل واحد فوقتت بينة أحدهما وأطلقت الأخرى أن بينة الوقت أولى ووجه الفرق أنهما إذا ادعيا الشراء من اثنين فقد ادعيا تلقي الملك من البائعين فتاريخ إحدى البينتين لا يدل على سبق أحد الشراءين بل يجوز أن يكون شراء صاحبه أسبق من شرائه فلا يحكم بسبق أحدهما مع الاحتمال فيقسم بينهما نصفين بخلاف ما إذا ادعيا الشراء من واحد لأن هناك اتفقا على تلقي الملك من واحد فتاريخ إحدى البينتين أوجب تلقي الملك منه في زمان لا ينازعه فيه أحد فيؤمر بالدفع إليه حتى يقوم على التلقي منه دليل آخر هذا إذا كانت الدار في يد ثالث فإن كانت في يد أحدهما فإن ادعيا الشراء من واحد فصاحب اليد أولى سواء أرخ الآخر أو لم يؤرخ وسواء ذكر شهود القبض أو لم يذكر لأن القبض من صاحب اليد أقوى لثبوته حسا ومشاهدة وقبض الآخر لم يثبت إلا ببينة تحتمل الصدق والكذب فكان القبض المحسوس أولى فصار الحاصل أن القبض الثابت بالحس أولى من الثابت بالخبر ومن التاريخ أيضا والقبض الثابت بالخبر أولى من التاريخ وإن ادعيا الشراء من اثنين يقضى للخارج سواء وقتت البينتان أو لا أو وقتت إحداهما دون الأخرى إلا إذا وقتتا ووقت صاحب اليد أسبق لأنهما ادعيا تلقي الملك من البائعين فقاما مقام البائعين فصار كأن البائعين حضرا وأقاما البينة ولو كان كذلك يقضى للخارج كذا هذا بخلاف ما إذا كان البائع واحدا لأنهما اتفقا على أن الملك لهما بالشراء من جهته ولأحدهما يد فيجعل كأن شراء صاحب اليد أسبق وإن كان السبب هو النتاج بأن ادعى كل واحد من الخارجين أنها دابته نتجت عنده فإن أقام كل واحد منهما البينة على ملك مطلق يقضى بينهما نصفين لاستواء الحجتين وتعذر العمل بهما بإظهار الملك في كل المحل فليعمل بهما بالقدر الممكن وإن أقاما البينة على ملك موقت .

                                                                                                                                فإن اتفق الوقتان فكذلك وإن اختلفا يحكم سن الدابة إن علم وإن أشكل فعند أبي حنيفة يقضى لأسبقهما وقتا وعندهما يقضى بينهما وجه قولهما أن السن إذا أشكل يحتمل أن يكون موافقا لوقت هذا ويحتمل أن يكون موافقا لوقت ذاك فسقط اعتبار الوقت وصار كأنهما سكتا عن الوقت أصلا وجه قول [ ص: 239 ] أبي حنيفة رحمه الله أن وقوع الإشكال في السن يوجب سقوط اعتبار حكم السبق فبطل تحكيمه فبقي الحكم للوقت فالأسبق أولى وهذا يشكل بالخارج مع ذي اليد وإن خالف الوقتين جميعا فهو على ما ذكرنا في الخارج مع ذي اليد

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية