الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                الوكيل هل يملك الحقوق ؟ جملة الكلام فيه : أن الموكل به نوعان : نوع لا حقوق له ، إلا ما أمر به الموكل ، كالوكيل بتقاضي الدين ، والتوكيل بالملازمة ونحوه .

                                                                                                                                ونوع له حقوق كالبيع والشراء والنكاح والخلع ونحوه .

                                                                                                                                ( أما ) التوكيل بالبيع والشراء : فحقوقها ترجع إلى الوكيل ، فيسلم المبيع ، ويقبضه ويقبض الثمن ويطالب به ويخاصم في العيب وقت الاستحقاق .

                                                                                                                                والأصل أن كل عقد لا يحتاج فيه إلى إضافته إلى الموكل ويكتفي فيه بالإضافة إلى نفسه ، فحقوقه راجعة إلى العاقد كالبياعات والأشربة .

                                                                                                                                والإجارات والصلح الذي هو في معنى البيع ، فحقوق هذه العقود ترجع للوكيل وعليه ، ويكون الوكيل في هذه الحقوق كالمالك ، والمالك كالأجنبي حتى لا يملك الموكل مطالبة المشتري من الوكيل بالثمن ولو طالبه فأبى لا يجبر على تسليم الثمن إليه .

                                                                                                                                ولو أمره الوكيل بقبض الثمن ملك المطالبة ، وأيهما طالب المشتري بالثمن يجبر على التسليم إليه .

                                                                                                                                ولو نهاه الوكيل عن قبض الثمن صح نهيه .

                                                                                                                                ولو نهى الموكل الوكيل عن قبض الثمن لا يعمل نهيه ، غير أن المشتري إذا نقد الثمن إلى الموكل يبرأ عن الثمن استحسانا ، وكذا الوكيل هو المطالب بتسليم المبيع إذا نقد المشتري الثمن ولا يطالب به الموكل .

                                                                                                                                وإذا استحق المبيع في يد المشتري يرجع بالثمن على الوكيل إن كان نقد الثمن إليه ، وإن كان نقده إلى الموكل يرجع بالثمن عليه ، وكذا إذا وجد المشتري بالمبيع عيبا ، له أن يخاصم الوكيل ، وإذا أثبت العيب عليه ورده عليه بقضاء القاضي أخذ الثمن من الوكيل إن كان نقده الثمن ، وإن كان نقده إلى الموكل أخذه منه .

                                                                                                                                وكذا الوكيل بالشراء هو المطالب بالثمن دون الموكل ، وهو الذي يقبض المبيع دون الموكل .

                                                                                                                                وإذا استحق المبيع في يده فهو الذي يتولى الرجوع بالثمن على بائعه دون الموكل .

                                                                                                                                ولو وجد بالمبيع عيبا إن كان المبيع في يده ، ولم يسلمه إلى الموكل بعد فله أن يرده على بائعه بالعيب ، وإن كان قد سلمه إلى موكله ليس له أن يرده عليه إلا برضا موكله .

                                                                                                                                وكذلك هذا في الإجارة ، والاستئجار وأخواتهما ، وكل عقد يحتاج فيه إلى إضافته إلى الموكل فحقوقه ترجع إلى الموكل كالنكاح والطلاق على مال ، والعتاق على مال والخلع والصلح عن دم العمد ، والكتابة والصلح عن إنكار المدعى عليه ونحوه ، فحقوق هذه العقود تكون للموكل عليه ، والوكيل فيها يكون سفيرا ومعبرا محضا .

                                                                                                                                حتى إن وكيل الزوج في النكاح لا يطالب بالمهر ، وإنما يطالب به الزوج إلا إذا ضمن المهر ، فحينئذ يطالب به لكن بحكم الضمان ، ووكيل المرأة في النكاح لا يملك قبض المهر .

                                                                                                                                وكذا الوكيل بالكتابة والخلع لا يملك قبض بدل الكتابة والخلع إن كان وكيل الزوج ، وإن كان وكيل المرأة لا يطالب ببدل الخلع ، إلا بالضمان .

                                                                                                                                وكذا الوكيل بالصلح عن دم العمد وهذا الذي ذكرنا أن حقوق العقد في البيع ، والشراء وأخواتهما ترجع إلى الوكيل مذهب علمائنا ، وقال الشافعي - رحمه الله - : لا يرجع شيء من الحقوق إلى الوكيل ، وإنما يرجع إلى الموكل .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن الوكيل متصرف بطريق النيابة عن الموكل ، وتصرف النائب تصرف المنوب عنه ألا ترى أن حكم تصرفه يقع للموكل ؟ فكذا حقوقه ; لأن الحقوق تابعة للحكم ، والحكم هو المتبوع فإذا كان الأصل له فكذا التابع .

                                                                                                                                ( ولنا ) : أن الوكيل هو العاقد حقيقة ، فكانت حقوق العقد راجعة إليه ، كما إذا تولى الموكل بنفسه ، ولا شك أن الوكيل هو العاقد حقيقة ; لأن عقده كلامه القائم بذاته حقيقة ويستحيل أن يكون الإنسان فاعلا بفعل الغير حقيقة ، وهذه حقيقة مقررة بالشريعة قال الله - عز وجل - : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } وقال الله - عز شأنه - : { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } وكان ينبغي أن يكون أصل الحكم له أيضا ; لأن السبب وجد منه حقيقة وشرعا ، إلا أن الشرع أثبت أصل الحكم للموكل ; لأن الوكيل إنما فعله له بأمره وإنابته ، وفعل المأمور مضاف إلى الآمر ، فتعارض الشبهان ، فوجب اعتبارهما بقدر الإمكان ، فعملنا بشبه الآمر .

                                                                                                                                والإنابة بإيجاب أصل الحكم للموكل ونسبة الحقيقة المقررة بالشريعة [ ص: 34 ] بإثبات توابع الحكم للوكيل توفيرا على الشبهين حظهما من الحكم ، ولا يمكن الحكم بالعكس ، وهو إثبات أصل الحكم للوكيل ، وإثبات التوابع للموكل ; لأن الأصل في نفاذ تصرف الوكيل هو الولاية ; لأنها علة نفاذه إذ لا ملك له .

                                                                                                                                والموكل أصل في الولاية ، والوكيل تابع له ; لأنه لا يتصرف بولاية نفسه لعدم الملك بل بولاية مستفادة من قبل الموكل ، فكان إثبات أصل الحكم للموكل ، وإثبات التوابع للوكيل وضع الشيء في موضعه وهو حد الحكمة ، وعكسه وضع الشيء في غير موضعه ، وهو حد السفه بخلاف النكاح وأخواته ; لأن الوكيل هناك ليس بنائب عن الموكل بل هو سفير ومعبر بمنزلة الرسول ، ألا ترى أنه لا يضيف العقد إلى نفسه ، بل إلى موكله ؟ فانعدمت النيابة ، فبقي سفيرا محضا فاعتبر العقد موجودا من الموكل من كل وجه ، فترجع الحقوق إليه ، ثم نقول : إنما تلزمه العهدة ، وترجع الحقوق إليه إذا كان من أهل العهدة ، ( فأما ) إذا لم يكن بأن كان صبيا محجورا ينفذ بيعه وشراؤه ، وتكون العهدة على الموكل لا عليه ; لأن ذلك من باب التبرع ; والصبي ليس من أهل التبرع ، لكونه من التصرفات الضارة المحضة ، فيقع محضا لحصول التجربة والممارسة له في التصرفات ، ولا خيار للمشتري من الوكيل المحجور سواء علم أنه محجور أو لم يعلم في ظاهر الرواية ، وعن أبي يوسف أنه إن كان عالما فلا خيار له ، فأما إذا كان جاهلا فله الخيار ، إن شاء فسخ العقد ، وإن شاء أمضاه .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن الرضا شرط جواز التجارة ، وقد اختل الرضا ; لأنه لما أقدم على العقد ، على أن تكون العهدة على العاقد ، فإذا تبين أنها ليست عليه اختل رضاه ، فثبت له الخيار ، كما إذا ظهر به عيب ( وجه ) ظاهر الرواية : أن الجهل بالحجر ليس بعذر ; لأنه يمكنه الوصول إليه ، خصوصا في حق الصبي ; لأن الأصل فيه هو الحجر ، والإذن يعارض الرشد ، فكان سبب الوصول إلى العلم قائما ، فالجهل به لتقصير من جهته فلا يعذر ويعتبر عالما .

                                                                                                                                ولو علم بالحجر حقيقة لما ثبت له الخيار كذا هذا والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية