الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) الذي يرجع إلى المرهون به فأنواع : منها أن يكون مضمونا ، والكلام في هذا الشرط يقع في موضعين : أحدهما في أصل اشتراط الضمان ، والثاني في صفة المضمون أما الأول فأصل الضمان هو كون المرهون به مضمونا شرط جواز الرهن ; لأن المرهون عندنا مضمون بمعنى سقوط الواجب عند هلاكه ، أو بمعنى استيفاء الواجب ، ولسنا نعني بالمضمون سوى أن يكون واجب التسليم على الراهن ، والمضمون نوعان : دين ، وعين .

                                                                                                                                أما الدين : فيجوز الرهن بأي سبب وجب من الإتلاف والغصب والبيع ونحوها ; لأن الديون كلها واجبة على اختلاف أسباب وجوبها ، فكان الرهن بها رهنا بمضمون فيصح ، وسواء كان مما يحتمل الاستبدال قبل القبض أو لا يحتمله ، كرأس مال السلم وبدل الصرف والمسلم فيه ، وهذا عند أصحابنا الثلاثة ، وقال زفر : لا يجوز الرهن بهذه الديون وجه قوله أن سقوط الدين عند هلاك الرهن بطريق الاستبدال ، على معنى أن عين الدين تصير بدلا عن الدين لا بطريق الاستيفاء ; لأن الاستيفاء لا يتحقق إلا عند المجانسة ، والرهن مع الدين يكونان مختلفي الجنس عادة ، فلا يكون القول بالسقوط بطريق الاستيفاء ، فتعين أن يكون بطريق الاستبدال فيختص جواز الرهن بما يحتمل الاستبدال ، وهذه الديون كما لا يجوز استبدالها فلا يجوز الرهن بها .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن السقوط بطريق الاستيفاء ; لما نذكر في حكم الرهن إن شاء الله تعالى واستيفاء هذه الديون ممكن وأما قوله : الاستيفاء يستدعي المجانسة قلنا : المجانسة ثابتة من وجه ; لأن الاستيفاء يقع بمالية الرهن لا بصورته ، والأموال كلها فيما يرجع إلى معنى المالية جنس واحد ، وقد يسقط اعتبار المجانسة من حيث الصورة ، ويكتفى بمطلق المالية للحاجة والضرورة ، كما في إتلاف ما لا مثل له من جنسه ، وقد تحققت الضرورة في باب الرهن ; لحاجة الناس إلى توثيق ديونهم من جانب الاستيفاء ، فأمكن القول بالاستيفاء ، وإذا جاز الرهن بهذه الديون فإن هلك الرهن في المجلس ، تم الصرف والسلم ; ; لأنه صار مستوفيا عين حقه في المجلس لا مستبدلا ، وإن لم يملك حتى افترقا ، بطلا ; لفوات شرط البقاء على الصحة وهو القبض في المجلس .

                                                                                                                                وأما العين فنقول : لا خلاف في أنه لا يجوز الرهن بالعين التي هي أمانة في يد الراهن ، كالوديعة والعارية ومال المضاربة والبضاعة والشركة والمستأجر ونحوها ، فإنها ليست بمضمونة أصلا [ ص: 143 ] وأما العين المضمونة فنوعان : نوع هو مضمون بنفسه ، وهو الذي يجب مثله عند هلاكه إن كان له مثل ، وقيمته إن لم يكن له مثل ، كالمغصوب في يد الغاصب ، والمهر في يد الزوج ، وبدل الخلع في يد المرأة ، وبدل الصلح عن دم العمد في يد العاقلة ، ولا خلاف في أنه يجوز الرهن به ، وللمرتهن أن يحبس الرهن حتى يسترد العين ، فإن هلك المرهون في يده قبل استرداد العين والعين قائمة يقال للراهن : سلم العين إلى المرتهن ، وخذ منه الأقل من قيمة الرهن ومن الدين ; لأن المرهون عندنا مضمون بذلك ، فإذا وصل إليه العين ، يجب عليه رد قدر المضمون إلى الراهن ، فإن هلكت العين والرهن قائم ، صار الرهن بها رهنا بقيمتها ، حتى وهلك الرهن بعد ذلك ، يهلك مضمونا بالأقل من قيمته وقيمة العين ; لأن قيمة العين بدلها ، وبدل الشيء قائم مقامه كأنه هو .

                                                                                                                                وأما الذي هو مضمون بغيره لا بنفسه ، كالمبيع في يد البائع ليس هو مضمونا بنفسه ، ألا ترى أنه لو هلك في يده ، لا يضمن شيئا ، بل هو مضمون بغير الثمن حتى يسقط الثمن المشترى إذا هلك ، فهل يجوز الرهن به ؟ ذكر في كتاب الصرف أنه يجوز ، وله أن يحبسه حتى يقبض المبيع ، وإن هلك في يده قبل القبض ، يهلك بالأقل من قيمته ومن قيمة المبيع ، ولا يصير قابضا للمبيع بهلاكه ، وله أن يقبض المبيع إذا أوفى ثمنه ، وعليه أيضا ضمان الأقل بهلاك الرهن .

                                                                                                                                ولو هلك المبيع قبل القبض والرهن قائم ، بطل البيع ; لأن إهلاك المبيع قبل القبض يوجب بطلان المبيع ، وعلى المشتري أن يرد الرهن على البائع .

                                                                                                                                ولو هلك في يده قبل الرد ، هلك بضمانه وهو الأقل من قيمته ومن قيمة المبيع للبائع ، ولا يبطل ضمانه بهلاك المبيع وبطلان البيع ; لأنه وإن هلك المبيع ، فقد سقط الثمن بمقابلته فكان بطلانه بعوض ، فلا يبطل ضمانه .

                                                                                                                                وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يصح الرهن ، وبه أخذ الكرخي وجه رواية الحسن أن قبض الرهن قبض استيفاء المرهون ، ولا يتحقق معنى الاستيفاء في المضمون بغيره ; لأن المشتري لا يصير مستوفيا شيئا بهلاك الرهن ، إنما يسقط عنه الثمن لا غير .

                                                                                                                                ( وجه ) ظاهر الرواية الاستيفاء ههنا يحصل من حيث المعنى ; لأن المبيع قبل القبض إن لم يكن مضمونا بالقيمة فهو مضمون بالثمن ، ألا ترى أنه لو هلك ، يسقط الثمن عن المشتري ، فكان سقوط الثمن عنه كالعوض عن هلاك المبيع فيحصل مستوفيا مالية المبيع من الرهن من حيث المعنى ، فكان في معنى المضمون بنفسه فيصح الرهن به ولو تزوج امرأة على دراهم بعينها ، أو اشترى شيئا بدراهم بعينها فأعطى بها رهنا لم يجز عند أصحابنا الثلاثة رضي الله عنهم ، وعند زفر يجوز ; بناء على أن الدراهم والدنانير لا تتعين في عقود المعاوضات ، وإن عينت فكان الواجب على الراهن مثلها لا عينها ، فلم يكن المعين مضمونا ; فلم يجز الرهن به ، وعنده يتعين بالتعيين بمنزلة العوض فكان المعين مضمونا ; فجاز الرهن به ، ولا يجوز الرهن بالكفالة بالنفس ; لأن المكفول به ليس بمضمون على الكفيل ، ألا ترى أنه لو هلك ، لا يجب على الراهن شيء ولا يسقط عن المرتهن بمقابلته .

                                                                                                                                ولا يجوز الرهن بالشفعة ; لأن الشفعة ليست بمضمونة على المشتري ، بدليل أنه لو هلك ، لا يجب عليه شيء ولا يسقط عن المرتهن بشيء بمقابلته ، فكان رهنا بما ليس بمضمون ; فلم يجز ، ولا يجوز الرهن بالعبد الجاني والعبد المديون ; ; لأنه لو هلك ، لا يجب على المولى شيء ، ولا يسقط عن المرتهن شيء بمقابلته ، فلم يكن مضمونا أصلا فلا يصح الرهن به ، ولا يجوز الرهن بأجرة النائحة والمغنية ، بأن استأجر مغنية أو نائحة أو أعطاهما بالأجرة رهنا ; لأن الإجارة لم تصح فلم تجب الأجرة ، فكان رهنا بما ليس بمضمون ; فلم يجز ولو دفع إلى رجل رهنا ليقرضه فهلك الرهن قبل أن يقرضه يهلك مضمونا بالأقل من قيمته ومما سمى في القرض ، وإن حصل الارتهان بما ليس بمضمون لكنه في حكم المضمون ; ; لأنه قبض الرهن ليقرضه فكان قبض الرهن على جهة الضمان ، والمقبوض على جهة شيء كالمقبوض على حقيقته في الشرع ، كالمقبوض على سوم الشراء .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية