الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 246 ] الركن الثالث : المدة ، فإن حلف على الامتناع أبدا ، أو أطلق ، فهو مؤل ، وإن قيد بزمان ، فهو قسمان . أحدهما : أن يقدر الزمان ، فإن كان أربعة أشهر فما دونها ، فليس بمؤل ، والذي جرى منه يمين أو تعليق كما يجري في سائر الأفعال ، وإن كان أكثر من أربعة أشهر ، كان مؤليا . قال الإمام : ويكفي في كونه مؤليا أن يزيد على أربعة أشهر أقل قليل ، ولا يعتبر أن تكون الزيادة بحيث تتأتى بالمطالبة في مثلها .

                                                                                                                                                                        فإذا كانت الزيادة لحظة لطيفة ، لم تتأت المطالبة لأنها إذا مضت تنحل اليمين ، ولا مطالبة بعد انحلال اليمين . وفائدة كونه مؤليا في هذه الصورة ، أنه يأثم لإيذائها ، وقطع طمعها في الوطء في المدة المذكورة .

                                                                                                                                                                        ولو حلف لا يجامعها أربعة أشهر ، ثم أعاد اليمين بعد مضي تلك المدة ، وهكذا مرات ، فلا يكون مؤليا قطعا . ولو وصل اليمين فقال : والله لا أجامعك أربعة أشهر ، فإذا مضت فوالله لا أجامعك أربعة أشهر ، وهكذا مرارا ، فليس بمؤل على الأصح .

                                                                                                                                                                        قال الإمام : وهل يأثم الموالي بين هذه الأيمان كما ذكرنا ، فيما إذا زادت اليمين على أربعة أشهر بلحظة لطيفة ، يحتمل أن لا يأثم لعدم الإيلاء ، ويحتمل أن يأثم إثم الإيذاء والإضرار ، لا إثم المؤلين .

                                                                                                                                                                        قلت : الراجح تأثيمه . - والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال : والله لا أجامعك خمسة أشهر ، فإذا مضت ، فوالله لا أجامعك سنة ، فلها المطالبة بعد مضي أربعة أشهر بموجب اليمين الأولى ، فإن أخرت المطالبة حتى يمضي الشهر الخامس ، فلا مطالبة بموجب تلك اليمين ، لانحلالها ، وإن طالبته في الخامس ، ففاء إليها ، خرج عن موجب الإيلاء الأول ، فإذا مضى الخامس ، [ ص: 247 ] استحقت مدة الإيلاء الثاني . وإن طلق ، سقطت عنه المطالبة في الحال ، فإن راجعها في الشهر الخامس ، لم تضرب المدة في الحال ، لأن الباقي من مدة اليمين الأولى قليل ، فإذا انقضى الخامس ، ضربت المدة للإيلاء الثاني . ولو وطئها بعد الرجعة في باقي الشهر ، انحلت اليمين وتلزمه الكفارة على المذهب ، وإن قلنا : إن المؤلي إذا فاء لا كفارة عليه .

                                                                                                                                                                        وإن راجعها بعد الشهر الخامس ، نظر ، إن راجع بعد سنة من مضي الخامس ، فلا إيلاء ، لانقضاء المدتين وانحلال اليمين ، وإن راجع قبل تمام السنة ، فإن بقي أربعة أشهر فأقل ، فلا إيلاء ، وإن بقي أكثر ، عاد الإيلاء ، وضربت المدة في الحال .

                                                                                                                                                                        ولو جدد نكاحها بعد البينونة ، ففي عود الإيلاء حنث يعود لو راجعها ، خلاف عود الحنث ، وتبقى اليمين ما بقي شيء من المدة ، وإن لم يعد الإيلاء ، حتى لو راجع ، وقد بقي من السنة أقل من أربعة أشهر ، فوطئها في تلك البقية ، لزمه الكفارة ، ولو عقد اليمين على مدتين تدخل إحداهما في الأخرى بأن قال : والله لا أجامعك خمسة أشهر ، ثم قال : والله لا أجامعك سنة ، فإذا مضت أربعة أشهر ، فلها المطالبة ، فإن فاء انحلت اليمينان ، وإذا أوجبنا الكفارة ، فالواجب كفارة ، أم كفارتان ؟ فيه خلاف يجري في كل يمينين يحنث الحالف فيهما بفعل واحد ، بأن حلف لا يأكل خبزا ، وحلف لا يأكل طعام زيد ، فأكل خبزه ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، وإن طلقها ثم راجعها ، أو جدد نكاحها ، فإن بقي من السنة أربعة أشهر أو أقل ، لم يعد الإيلاء ، وتبقى اليمين . وإن بقي أكثر من أربعة أشهر ، عاد الإيلاء في الرجعية ، وفي التجديد خلاف عود الحنث ، هذا هو الصحيح المعروف في المذهب . وفي " التتمة " أن السنة تحسب بعد انقضاء الأشهر الخمسة ، فيكون كالصورة السابقة ، ولو قال : إذا مضت خمسة أشهر ، فوالله لا أجامعك ، كان مؤليا بعد مضي الخمسة .

                                                                                                                                                                        القسم الثاني : أن يقيد الامتناع عن الوطء بمستقبل لا يتعين وقته ، فينظر ، إن [ ص: 248 ] كان المعلق به مستحيلا ، كقوله : حتى تصعدي السماء ، أو تطيري ، أو كان أمرا يستبعد في الاعتقادات حصوله في أربعة أشهر ، وإن كان محتملا كقوله : حتى ينزل عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم - . أو حتى يخرج الدجال ، أو يأجوج ومأجوج ، أو تطلع الشمس من مغربها ، أو بأمر يعلم تأخره عن أربعة أشهر ، كقوله : حتى يقدم فلان ، أو أدخل مكة ، والمسافة بعيدة لا تقطع ، في أربعة أشهر ، فهو مؤل . فلو قال في مسألة القدوم : ظننت المسافة قريبة ، فهل يصدق بيمينه ؟ ذكر فيه الإمام احتمالين ، والأقرب تصديقه .

                                                                                                                                                                        وفي شرح " مختصر الجويني " للموفق بن طاهر ، أن في التعليق بنزول عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم - ، وما في معناه ، لا يقطع بكونه مؤليا في الحال ، ولكن ينتظر ، فإذا مضت أربعة أشهر ، ولم يوجد المعلق به تبينا أنه كان مؤليا ومكناها من المطالبة ، والصحيح المعروف الأول ، وإن كان المعلق به مما يتحقق وجوده قبل أربعة أشهر ، كذبول البقل وجفاف الثوب ، وتمام الشهر ، أو يظن ، كمجيء المطر في وقت غلبة الأمطار ، ومجيء زيد من القرية ، وعادته المجيء للجمعة ، أو مجيء القافلة ، وعادتها غالبا المجيء كل شهر ، فليس بإيلاء ، وإنما هو عقد يمين ، فإن كان المعلق به مما لا يستبعد حصوله في أربعة أشهر ، ولا يظن ، كقوله : حتى يدخل زيد الدار ، أو أمرض ، أو يمرض فلان ، أو يقدم وهو على مسافة قريبة ، وقد تقدم ، وقد لا يحكم بكونه مؤليا في الحال ، فإن مضت أربعة أشهر ، ولم يوجد المعلق به ، فوجهان ، أحدهما : ثبت الإيلاء ، وتطالبه ، لحصول الضرر ، وتبين طول المدة ، وأصحهما : لا ، لأنه لم يتحقق قصد المضارة أولا ، وأحكام الإيلاء منوطة به لا بمجرد الضرر بالامتناع من الوطء ، ولهذا لو امتنع بلا يمين ، لم يكن مؤليا . ولو وطئ قبل وجود المعلق به ، وجبت الكفارة بلا خلاف ، ولو وجد المعلق به قبل الوطء ، ارتفعت اليمين بلا خلاف .

                                                                                                                                                                        [ ص: 249 ] فرع

                                                                                                                                                                        قال : لا أجامعك حتى أموت ، أو تموتي ، أو قال : عمري أو عمرك ، فهو مؤل لحصول اليأس مدة العمر . ولو قال : حتى يموت فلان ، فمؤل على الأصح عند الأكثرين .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال : لا أجامعك حتى تفطمي ولدك ، نقل المزني أن الشافعي - رحمه الله - قال : يكون مؤليا ، قال : وقال في موضع آخر : لا يكون مؤليا ، واختاره ، فأوهم أن في المسألة قولين ، وبه قال ابن القطان . وقال الجمهور : لا خلاف في المسألة ، ولكن ينظر إن أراد وقت الفطام ، فإن بقي أكثر من أربعة أشهر إلى تمام الحولين ، فمؤل ، وإلا فلا ، وإن أراد فعل الفطام ، فإن كان الصبي لا يحتمله إلا بعد أربعة أشهر لصغر أو ضعف بنية ، فمؤل ، وإن كان يحتمله لأربعة أشهر فما دونها ، فهو كالتعليق بدخول الدار ونحوه ، والنصان محمولان على الحالين .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال : لا أجامعك حتى تحبلي ، فإن كانت صغيرة أو آيسة ، فهو مؤل ، وإلا فكالتعليق بالقدوم من مسافة قريبة ودخول الدار .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا علق بالقدوم أو الفطام ، ولم يحكم بكونه مؤليا ، فمات المعلق بقدومه قبل القدوم ، أو الصبي قبل الفطام ، فهو كقوله : حتى يشاء فلان فمات قبل المشيئة ، وقد ذكرناه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال : والله لا أجامعك ، ثم قال : أردت شهرا ، دين ، ولم يقبل ظاهرا .

                                                                                                                                                                        [ ص: 250 ] الركن الرابع : المحلوف عليه ، وهو ترك الجماع ، فالحلف بالامتناع عن سائر الاستمتاعات ، ليس بإيلاء ، والألفاظ المستعملة في الجماع ضربان ، صريح ، وكناية ، فمن الصريح لفظ النيك ، وقوله : لا أغيب في فرجك ذكري ، أو حشفتي ، أو لا أدخل ، أو أولج ذكري في فرجك ، أو أجامعك بذكري ، وللبكر : لا أفتضك بذكري . فلو قال في شيء من هذا أردت غير الجماع ، لم يدين ، لأنه لا يحتمل غيره ، ولفظ الجماع والوطء أيضا صريحان ، لكن لو قال : أردت بالجماع الاجتماع ، وبالوطء الوطء بالقدم ، دين ، وقيل : إنهما كنايتان ، وهو شاذ مردود .

                                                                                                                                                                        ولو قال للبكر : لا أفتضك ولم يقل : بذكري ، فهو صريح ، فإن قال : لم أرد الجماع ، لم يقبل ظاهرا وهل يدين ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        الأصح : نعم . قال الإمام : ولو قال : أردت به الضم والالتزام ، لم يدين على الأصح . والمباشرة ، والمضاجعة ، والملامسة ، والمس ، والإفضاء ، والمباعلة ، والافتراش ، والدخول بها ، والمضي إليها ، كنايات على الجديد ، وصرائح في القديم ، والغشيان ، والقربان ، والإتيان عند الجمهور على القولين . وقيل : كنايات قطعا .

                                                                                                                                                                        والإصابة صريح عند الجمهور . وقيل : على القولين . وقوله : لا يجمع رأسي ورأسك وساد ، أو لا يجتمعان تحت سقف كناية قطعا . وقوله : لأبعدن عنك ، كناية ، ويشترط فيه نية الجماع والمدة جميعا ، ومثله قوله : لأسوءنك ، ولأغيظنك ، أو لتطولن غيبتي عنك ، فهو كناية في الجماع والمدة . ولو قال : ليطولن تركي لجماعك ، أو لأسوءنك في الجماع ، فهو صريح في الجماع كناية في المدة .

                                                                                                                                                                        ولو قال : لا أغتسل عنك ، سألناه ؟ فإن قال : أردت لا أجامعها ، فمؤل ، وإن قال : أردت الامتناع من الغسل ، أو أردت أني لا أمكث حتى أنزل ، واعتقد أن الجماع بلا إنزال لا يوجب الغسل .

                                                                                                                                                                        أو أني أقدم على وطئها وطء غيرها فيكون الغسل عن الأولى لحصول الجنابة بها ، قبلناه ، ولم يكن مؤليا . ولو قال : لا أجامعك في الحيض أو النفاس ، أو [ ص: 251 ] الدبر ، فليس بمؤل ، بل هو محسن .

                                                                                                                                                                        ولو قال : لا أجامعك إلا في الدبر ، فمؤل ، ولو قال : لا أجامعك إلا في الحيض أو النفاس ، قال السرخسي : لا يكون مؤليا ، لأنه لو جامع فيه حصلت الفتنة . وقال البغوي في الفتاوي : هو مؤل ، وكذا لو قال : إلا في نهار رمضان ، أو إلا في المسجد .

                                                                                                                                                                        ولو قال : لا جامعتك جماع سوء ، فليس بمؤل ، كما لو قال : لا جامعتك في هذا البيت ، أو لا جامعتك من القبل . ولو قال : لا أجامعك إلا جماع سوء ، فإن أراد : لا أجامعها إلا في الدبر ، أو فيما دون الفرج ، أو لا أغيب جميع الحشفة ، فمؤل ، وإن أراد الجماع الضعيف ، فليس بمؤل ، ولو حلف لا يجامع بعضها ، فكما سيأتي في الظهار إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية