الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 103 ] فصل

                                                                                                                                                                        قال لزوجتيه : إحداكما طالق ، فإن قصد واحدة بعينها ، فهي المطلقة ، فعليه بيانها . وإن أرسل اللفظ ولم يقصد معينة ، طلقت إحداهما مبهما ويعينها الزوج ، وهذان القسمان يشتركان في أحكام ، ويفترقان في أحكام ، ثم تارة يفصل حكمهما في الحياة ، وتارة بعد الموت .

                                                                                                                                                                        الحالة الأولى : حالة الحياة ، وفيها مسائل :

                                                                                                                                                                        الأولى : يلزم الزوج بالتبيين إذا نوى واحدة بعينها ، وبالتعيين إذا لم ينو ، ويمنع من قربانهما حتى يبين ، أو يعين ، وذلك بالحيلولة بينه وبينهما ، ويلزمه التبيين والتعيين على الفور ، فإن أخر ، عصى ، فإن امتنع ، حبس وعزر ، ولا يقنع بقوله : نسيت المعينة ، وإذا بين في الصورة الأولى ، فللأخرى أن تدعي عليه أنك نويتني وتحلفه ، فإن نكل حلفت وطلقتا ، وإذا عين في الصورة الثانية ، فلا دعوى لها ، لأنه اختيار ينشئه ، هذا كله في الطلاق البائن ، فلو أبهم طلقة رجعية بينهما ، فهل يلزمه أن يبين أو يعين في الحال ؟ وجهان حكاهما الإمام ، أحدهما : نعم ، لحصول التحريم ، وأصحهما : لا ، لأن الرجعية زوجة .

                                                                                                                                                                        المسألة الثانية : يلزمه نفقتهما إلى البيان والتعيين ، وإذا بين أو عين ، لا يسترد المصروف إلى المطلقة ، لأنها محبوسة عنده حبس الزوجة .

                                                                                                                                                                        الثالثة : وقوع الطلاق فيما إذا نوى معينة يحصل بقوله : إحداكما طالق ، ويحتسب عدة من بين الطلاق فيها من حين اللفظ على المذهب المنصوص . وحكي قول مخرج : أنها من وقت البيان ، قال الإمام : وهذا غير سديد .

                                                                                                                                                                        أما إذا لم ينو معينة ، ثم عين ، فهل يقع الطلاق من حين قال : إحداكما [ ص: 104 ] طالق ، أم من حين التعيين ؟ وجهان ، رجحت طائفة الثاني ، منهم الشيخ أبو علي ، ورجح الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والروياني وآخرون الأول . قالوا : ولولا وقوع الطلاق ، لما منع منهما ، وهذا أقرب .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا الذي قاله أبو حامد وموافقوه ، هو الصواب . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فإن قلنا : يقع الطلاق بالتعيين ، فمنه العدة ، وإن قلنا : باللفظ ، فهل العدة منه ، أم من التعيين ؟ فيه الخلاف السابق ، فيما إذا نوى معينة . والأكثرون على أن الراجح ، احتساب العدة من التعيين كيف قدر البناء ، هذا كله في حياة الزوجين ، وسنذكر إن شاء الله أنهما إذا ماتتا أو إحداهما تبقى المطالبة بالتعيين لبيان حكم الميراث ، وحينئذ فإن أوقعنا الطلاق باللفظ ، فذاك ، وإن أوقعناه بالتعيين ، فلا سبيل إلى إيقاع طلاق بعد الموت ، ولا بد من إسناده للضرورة ، وإلى ما يسند ؟ وجهان ، أصحهما عند الإمام : إلى وقت اللفظ فيرتفع الخلاف ، وأرجحهما عند الغزالي : إلى قبيل الموت .

                                                                                                                                                                        المسألة الرابعة : لو وطئ إحداهما ، نظر ، إن كان نوى معينة ، فهي المطلقة ، ولا يكون الوطء بيانا ، بل تبقى المطالبة بالبيان ، فإن بين الطلاق في الموطوءة ، فعليه الحد إن كان الطلاق بائنا ، ويلزمه المهر لجهلها كونها المطلقة ، وإن بين في غير الموطوءة ، قبل ، فإن ادعت الموطوءة أنه أرادها ، حلف ، فإن نكل وحلفت ، طلقتا وعليه المهر ، ولا حد للشبهة .

                                                                                                                                                                        وإن لم يكن نوى معينة ، فهل يكون الوطء تعيينا ؟ وجهان ، ويقال : قولان ، أحدهما : نعم ، وبه قال المزني وأبو إسحاق وأبو الحسن الماسرجسي ، ورجحه ابن كج ، والثاني : لا ، وبه قال ابن أبي هريرة ، ورجحه صاحبا " الشامل " و " التتمة " .

                                                                                                                                                                        [ ص: 105 ] قلت : هذا الثاني ، هو الأصح عند الرافعي في " المحرر " ، وهو المختار . قال في " الشامل " : وهو ظاهر نص الشافعي رحمه الله ، فإنه قال : إذا قال : إحداكما طالق ، منع منهما ، ومن يقول : الوطء تعيين ، لا يمنعه وطء أيهما شاء . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فإن جعلنا الوطء تعيينا للطلاق ، ففي كون سائر الاستمتاعات تعيينا وجهان بناء على الخلاف في تحريم الربيبة بذلك ، وإذا جعلنا الوطء تعيينا للطلاق في الأخرى ، فلا مهر للموطوءة ولا مطالبة ، وإلا فتطالب بالتعيين ، فإن عين الطلاق في الموطوءة ، فلها المهر إن قلنا : يقع الطلاق باللفظ ، وإن قلنا بالتعيين ، فحكى الفوراني أنه لا مهر ، وذكر فيه احتمالا ، وذكر ابن الصباغ وغيره تفريعا على أن الوطء تعيين : أن الزوج لا يمنع من وطء أيهما شاء ، وإنما يمنع منهما إذا لم يجعل الوطء تعيينا ، ولما أطلق الجمهور المنع منهما جميعا ، أشعر ذلك بأن الأصح عندهم ، أنه ليس بتعيين .

                                                                                                                                                                        الخامسة : في ألفاظ البيان والتعيين ، فإن نوى معينة ، حصل البيان بأن يقول مشيرا إلى واحدة : المطلقة هذه ، ولو قال : الزوجة هذه ، بأن الطلاق في الأخرى ، وكذا لو قال : لم أطلق هذه .

                                                                                                                                                                        ولو قال : أردت هذه بل هذه ، أو قال : هذه وهذه ، أو هذه هذه ، وأشار إليهما ، أو هذه مع هذه ، طلقتا ، قال الإمام : وهذا فيما يتعلق بظاهر الحكم ، فأما في الباطن ، فالمطلقة هي المنوية فقط ، حتى لو قال : إحداكما طالق ونواهما ، فالوجه عندنا أنهما لا تطلقان ، ولا يجيء فيه الخلاف في قوله : أنت طالق واحدة ، ونوى ثلاثا ، لأن حمل إحدى المرأتين عليهما لا وجه له ، وهناك يتطرق إلى الكلام تأويل .

                                                                                                                                                                        ولو قال : أردت هذه ثم هذه ، أو هذه فهذه ، قال القاضي حسين وصاحباه [ ص: 106 ] المتولي والبغوي : تطلق الأولى دون الثانية لاقتضاء الحرفين الترتيب . وحكى الإمام هذا عن القاضي ، واعترض بأنه اعترف بطلاق الثانية أيضا ، فليكن كقوله : هذه وهذه ، والحق هو الاعتراض .

                                                                                                                                                                        قلت : قول القاضي أظهر . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولو قال : أردت هذه بعد هذه ، فقياس الأول أن تطلق المشار إليها بائنا وحدها . ولو قال : هذه قبل هذه ، أو بعدها هذه ، فقياس الأول أن تطلق المشار إليها أولا وحدها ، وقياس الاعتراض ، الحكم بطلاقهما في الصورة ، ولو قال : أردت هذه أو هذه ، استمر الإبهام والمطالبة بالبيان .

                                                                                                                                                                        ولو كان تحته أربع ، فقال : إحداكن طالق ، ونوى واحدة بعينها ، ثم قال : أردت هذه بل هذه بل هذه ، طلقن جميعا ، وكذا لو عطف

                                                                                                                                                                        [ بالواو فلو عطف ] بالفاء أو بثم ، عاد قول القاضي والاعتراض .

                                                                                                                                                                        ولو قال وهن ثلاث : أردت أو طلقت هذه ، بل هذه أو هذه ، طلقت الأولى وإحدى الأخريين ، ويؤمر بالبيان . وإن قال : هذه أو هذه ، بل هذه ، طلقت الأخيرة وإحدى الأوليين ، ويؤمر بالبيان . ولو قال : هذه وهذه أو هذه ، نظر إن فصل الثالثة عن الأوليين بوقفة أو بنغمة ، أو أداء ، فالطلاق مردد بين الأوليين وبين الثالثة وحدها ، وعليه البيان ، فإن بين في الثالثة ، طلقت وحدها ، وإن بين في الأوليين أو إحداهما ، طلقتا ، لأنه جمع بينهما بالواو العاطفة ، فلا يفترقان .

                                                                                                                                                                        وإن فصل الثانية عن الأولى ، تردد الطلاق بين الأولى وإحدى الأخريين ، [ ص: 107 ] فإن بين في الأولى ، طلقت وحدها . وإن بين في الأخريين أو إحداهما ، طلقتا جميعا ، وإن سرد الكلام ولم يفصل ، احتمل كون الثالثة مفصولة عنهما ، واحتمل كونها مضمومة إلى الثانية مفصولة عن الأولى ، فيسأل ويعمل بما أظهر إرادته . ولو قال : هذه أو هذه وهذه ، فإن فصل الثالثة عن الأوليين ، تردد الطلاق بين إحدى الأوليين ، والأخرى مطلقة وحدها . وإن فصل الأخريين عن الأولى ، فالتردد بين الأولى وحدها ، وبين الأخريين معا ، وإن سرد الكلام ولم يفصل ، فهما محتملان ولو قال وهن أربع وقد طلق واحدة : أردت هذه أو هذه

                                                                                                                                                                        [ لا ] ، بل هذه وهذه ، طلقت الأخريان وإحدى الأوليين . ولو قال : هذه وهذه ، بل هذه أو هذه ، طلقت الأوليان وإحدى الأخريين . ولو قال : هذه وهذه وهذه أو هذه ، فإن فصل الأخيرة عن الثلاث ، تردد الطلاق بين الثلاث والرابعة . وإن فصل الثالثة عما قبلها ، طلقت الأوليان وإحدى الأخريين ، وإن فصل الثانية عن الأولى ، فينبغي أن يقال : تطلق الأولى ، ويتردد الطلاق بين الثانية والثالثة معا ، وبين الرابعة وحدها ، فعليه البيان . وإن سرد الكلام ، قال البغوي : تطلق الثلاث أو الرابعة ، ويؤمر بالبيان . فإن بين في الثلاث أو بعضهن ، طلقن جميعا ، وإن بين في الرابعة ، طلقت وحدها . والوجه أن يقال : صورة السرد تحتمل احتمالات الثلاث ، فيراجع ويعمل بمقتضى قوله كما سبق . ولو قال : هذه وهذه ، أو هذه وهذه ، فقد يفصل الأولى عن الثلاث الأخيرة ، ويضم بعضهن إلى بعض ، فتطلق الأولى ويتردد بين الثانية وحدها ، وبين الأخريين معا . وقد يفرض الفصل بين الأوليين والأخريين ، والضم فيهما ، فتطلق الأوليان والأخريان . وقد يفرض فصل الرابعة عما قبلها فتطلق الرابعة ، ويتردد الطلاق بين الثالثة وحدها وبين الأوليين معا . ومتى قال : هذه المطلقة ، ثم قال : لا أدري أهي [ ص: 108 ] هذه أم غيرها ؟ فتلك طالق بكل حال وتوقف الباقيات ، فإن قال بعد ذلك : تحققت أن المطلقة الأولى ، قبل منه ، ولم تطلق غيرها . وإن عين أخرى ، حكم بطلاقها ، ولم يقبل رجوعه عن الأولى . والوقفة التي جعلناها فاصلة بين اللفظين مع إعمال اللفظين ، هي الوقفة اليسيرة ، فأما إذا طالت ، فقطعت نظم الكلام بأن قال : أردت هذه ثم قال بعد طول المدة : أو هذه وهذه ، فهذا الكلام الثاني لغو إذ لا يستقل بالإفادة ، هذا كله إذا نوى عند اللفظ المبهم واحدة معينة . أما إذا لم ينو فطولب بالتعيين ، فقال مشيرا إلى واحدة : هذه المطلقة ، تعينت ولغا ذكر غيرها ، سواء عطف غيرها بالفاء وثم ، أو بالواو أو ب " بل " ، لأن التعيين هنا ليس إخبارا عن سابق ، بل هو إنشاء اختيار ، وليس له إلا اختيار واحدة ، وسواء قلنا : يقع الطلاق بالتعيين أو باللفظ .

                                                                                                                                                                        المسألة السادسة : لو ادعت التي علق طلاقها بكون الطائر غرابا أنها مطلقة ، لزمه أن يحلف جزما على نفي الطلاق ، كما لو ادعى نسيان المطلقة . ولو ادعت أنه كان غرابا وأنها طلقت ، لزمه أن يحلف على الجزم أنه لم يكن غرابا ، ولا يكتفى بقوله : لا أعلم أنه كان غرابا أو نسيت الحال ، كذا ذكره الإمام ، وفرق بينه وبين ما إذا علق طلاقها بدخول الدار ونحوه وأنكر حصوله ، فإنه يحلف على نفي العلم بالدخول ، لأن الحلف هناك على نفي فعل الغير . وأما نفي الغرابية ، فهو نفي صفة في الغير ، ونفي الصفة كثبوتها في إمكان الاطلاع عليها . قال الغزالي في " البسيط " : في القلب من هذا الفرق شيء ، فليتأمل ، ويشبه أن يقال : إنما يلزمه الحلف على نفي الغرابية إذا تعرض لها في الجواب .

                                                                                                                                                                        أما إذا اقتصر على قوله : لست بمطلقة ، فينبغي أن يكتفى منه بذلك كنظائره .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية