الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          الفرع الثالث: التوزيع التوازني

          هذه هـي المرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل التوزيع في الاقتصاد الإسلامي. ومن حيث وضع تسمية لهذه المرحلة، فإن نوعية الإجراء الذي ينظمه الإسلام هـنا يهدف إلى تحقيق التوازن بين أفراد الجماعة الإسلامية، ومسئولية الدولة باعتبارها ممثلة للجماعة الإسلامية من جانب آخر، يمكن في ضوء هـذا التصور أن يكون الاسم الذي تحمله هـذه المرحلة هـو التوزيع الكفائي، أو التوزيع التضامني، ولكن فضلنا التسمية بالتوزيع على أساس :

          * إن المجتمع الإسلامي قد لا يملك كل ما يكفيه ـ بمفهوم الكفاية ـ ولهذا يكون التوزيع المستهدف إسلاميا هـو التوازن في حدود ما هـو متاح من الموارد.

          * إن المجتمع الإسلامي قد يملك موارد واسعة، وعلى أساس هـذه الملكية الواسعة يكون المطلوب من التوزيع هـو: توازن بين أفراد الجماعة الإسلامية، وليس مجرد توفير حد الكفاية.

          * ثم إن التوازن يتضمن معنى القصد فيه، بمعنى أنه لا يحقق نفسه، وإنما يحقق بالقصد من الأفراد، أو السلطة الممثلة للمجتمع، ولهذا يكون فيه معنى التضامن. [ ص: 69 ]

          وأهم البنود التي يهمنا عرضها هـنا لبيان وملامح هـذه المرحلة هـي :

          أولا: الموضوعات تخدم هـذه المرحلة وأهم ملامحها

          (أ ) الزكاة

          إن هـذه الفريضة الإسلامية الإجراء الأولي لمواجهة الاختلال في الجماعة الإسلامية، وأنه يتحقق فيها شروط الشمول فيمن تجب عليه وفيمن تجب له ممن يكون مستحقا لها وفيما تجب فيه، وأن الهدف من الزكاة هـو : توفير حد الكفاية لكل فرد في الجماعة، ولكنها بسبب ظروف ما قد لا تستطيع توفير أو تأدية هـذا الغرض، ولهذا تكمل بإجراءات أخرى.

          (ب ) موارد ذات طبيعة خاصة

          وتشمل النفقات، والوقف، والموارد الأخرى المماثلة، وزكاة الفطر، والأضحية، والكفارات والنذور. وأهم الاتجاهات التي يهمنا تسجيلها هـنا بخصوص هـذه الموارد هـي :

          1- إن مسئولية مواجهة التضامن الاجتماعي تبدأ من اللبنة الأولى وهي الأسرة.

          2- إن الوقف يتضمن موارد دائمة لمواجهة التضامن الاجتماعي.

          3- المنحى الفلسفي لموقف الإسلام من تشريع كفارات مالية، تكفيرا عن بعض التصرفات الخاطئة دينيا هـو منحى متميز ومتفرد، إذ يجعل علاج بعض الأخطاء هـو التكفير عنها ببذل مال، ووضعه في خدمة التضامن الاجتماعي للجماعة الإسلامية.

          4- إن هـناك مناسبات معينة، ترتفع فيها الضرورة إلى سد حاجة المحتاج، ومن هـنا شرع الإسلام موارد خاصة لهذه المناسبات ( زكاة الفطر ) .

          ( جـ ) صدقة التطوع

          وأهم ما يعنينا منها أنها لمواجهة الطوارئ في الجماعة الإسلامية، وأنها [ ص: 70 ] تستهدف تكملة المرحلة السابقة. ونؤكد على أن أهم ما فيها :

          1- إنها لا تعني القعود عن العمل.

          2- إنها تعطي الفرصة لإظهار ذاتية المؤمن الخيرة.

          3- إنها لا تمس جوهر التشريع القائم على مواجهة التضامن الاجتماعي بإجراءات منظمة، ومن قبل سلطة محددة، وليس بإجراءات تنبني على التعميم.

          (د) التوظيف

          وأهم ما فيه أنه إجراء لمواجهة ظروف غير عادية، وأنه يشمل الجانبين اللذين تدور حولهما الالتزامات المالية، وإجراءات إعادة التوزيع وهما :

          1- جانب المصالح العامة.

          2- جانب الضمان الاجتماعي.

          ثانيا: خطوات التوزيع التوازني

          الإسلام يعمل للوصول إلى التوزيع التوازني على ثلاث خطوات أو مستويات معينة.

          1- المستوى الأول: إلزامي

          ويتضمن مجموعة من الالتزامات المالية، التي يلزم بها من يملكون في قبل من لا يملكون. ويهدف الإسلام من خلال هـذا المستوى أن يضمن عن طريق الإلزام مواجهة التضامن الاجتماعي بين أفراد الجماعة الإسلامية، ويتوقع من خلال إجراءات هـذه المرحلة أن يكون قد تم مواجهة التضامن الاجتماعي.

          ويجيء في هـذه المرحلة : الزكاة ـ الموارد الأخرى ذات الطبيعة الخاصة.

          (ب ) المستوى الثاني: اختياري

          وهذه الخطوة تجيء كمكملة للخطوة السابقة، وأنها تجيء لسد حاجات لأفراد الجماعة الإسلامية طارئة أو لم تغطها المرحلة الأولى. ومادامت هـذه [ ص: 71 ] المرحلة مكملة والتكميل يصعب معه تقدير مدى ما يلزم لمواجهته جاء التشريع الإسلامي في هـذا الصدد على أساس أن يكون هـذا المستوى اختياريا، ويجيء هـنا صدقة التطوع.

          (جـ) المستوى الثالث إلزامي

          وتجيء هـذه الخطوة بمثابة المواجهة الأخيرة للتضامن الاجتماعي، ولإعادة التوازن إلى الجماعة الإسلامية، وذلك حين تعجز المرحلتين السابقتين عن المواجهة الحاسمة، والنهائية في هـذا الصدد، ولم يكن من المتصور تنظيميا أن تكون هـذه المواجهة الأخيرة إلا بإجراءات إلزامية، بعد أن عجز الاختيار عن العلاج النهائي، ويجيء في هـذه المرحلة التوظيف.

          ثالثا: عناصر ريادة في التوزيع التوازني

          من النظر إلى التشريعات التي ينظم بها الإسلام مرحلة التوزيع التوازني نجد أن هـناك بعض الاتجاهات التي تستحق إبرازها بصورة مركزة وقوية، وباعتبارها عناصر تفوق وريادة في الإسلام.

          1- اتجاهات رائدة فيمن يشملهم الضمان الاجتماعي في الإسلام.

          إن أهم الاتجاهات الرائدة لتشريعات الضمان الاجتماعي في الإسلام، أنه يمده بحيث يشمل فئات ليس المعهود ـ في النظم الوضعية ـ تغطية احتياجاتها ومنها:

          أ- المدين: إن الإسلام يمد الضمان الاجتماعي ليشمل المدينين، الذين استدانوا لمصلحة عامة كالصلح بين المؤمنين، أو لمصلحة خاصة. والإسلام يهدف بهذا إلى أمور محددة.

          - أن ينمي رابطة التعاون بين أفراد الجماعة الإسلامية، وألا يخاف أحدهم من مد يد المعونة بإقراضه، فالمجتمع، ممثلا في الزكاة، ضامن أخير عند العجز.

          - أن ينقذ من يهدد بالعجز عن ممارسة دوره الإنتاجي بسبب مديونيته (المشروعة ) . [ ص: 72 ]

          - تشجيع المسلمين أن يسعى كل منهم للقضاء على الخصومات بين المتنازعين وهو أهم الاتجاهات، حتى ولو أدى ذلك أن يغرم، فالمجتمع ممثلا في الزكاة سيعوضه عن غرمه، ولو كان غير محتاج.

          ب- ابن السبيل : وهو المسافر الذي نفدت أمواله. والسفر المشروع له صور كثيرة، فيعطى بمقدار ما يسد حاجته، والتشريع الإسلامي بهذا الاتجاه يستهدف تحقيق قيما سلوكية داخل الجماعة الإسلامية.

          جـ- الرقيق: وإذا كان غير موجود الآن، فيمكن تحقيق هـدف البند ـ وهو المساعدة في التخلص من الاستغلال ـ بمساعدة المسلمين الواقع عليهم استغلال للتخلص منه.

          2- اتجاهات رائدة في موارد الضمان الاجتماعي في الإسلام ضمن موارد الضمان الاجتماعي: الكفارات ، ويعني ذلك أن الإسلام يجعل الخطأ يكفر عنه عمل خير موجه للمجتمع، ويتمثل هـذا العمل الخير في تغطية بعض حاجات الضمان الاجتماعي، وذلك بإخراج كفارات مالية عن هـذا الخطأ. وهذا منحى متميز وممتاز، وأهميته لا تتمثل في مقدار ما يوفر من موارد للضمان الاجتماعي، وإنما تكمن أهميته الحقيقية في المعنى الذي يهدف إليه والقيم التي يغرسها ويربيها في نفس المؤمن، من حيث دوره في الجماعة الإسلامية، ومسئوليته عن توفير احتياجاتها حتى أن الله يغفر له خطأه إذا اشترك في تغطية هـذه الاحتياجات.

          3-اتجاهات رائدة في المجال النفسي في تشريعات التوزيع التوازني ضمن مراحل التوزيع، مرحلة سميت بالمرحلة الاختيارية، وهي التي تظهر فيها صدقة التطوع لمواجهة الضمان الاجتماعي ، وكان ضمن التفسيرات التي قدمت لتوضيح هـذا المنحى الفكري هـو أن هـذه المرحلة مقصود بها مواجهة ظروف استثنائية، أو ظروف تكميلية عند عجز الموارد السابقة عن تغطية الضمان الاجتماعي، فجعل الإسلام التشريع هـنا يختبر ذاتية المؤمن، ومدى [ ص: 73 ] تقديره لمسئوليته الجماعية.

          ولكن بجانب ذلك، فإن هـذا المنحى الفكري يشير إلى اتجاهات في النفس الإنسانية من حيث حبها أن تعطي، حتى يتحقق الإشباع لهذا الجانب النفسي في الإنسان. وأيضا إن جعل هـذه المرحلة اختيارية، يتوافق مع ضجر النفس الإنسانية من الإلزام، حتى ولو كان في الخير، ولم يكن مستساغا أن يترك الأمر كلية للنفس الإنسانية، بحيث تعطي إشباعها في هـذا المجال، ولكن في الوقت نفسه، لم يكن يحتمل أن تحرم كلية من هـذا الاختيار، فأعطى الإسلام لها القدر الممكن واللازم لإشباع هـذا الجانب في النفس الإنسانية.

          ملاحظة ختامية :

          المراحل التي قدمت لعملية التوزيع في الفكر الإسلامي هـي مجرد تصنيف لخطوات التوزيع، وليست إجراءات، أو عمليات كل منها مستقلة ومنفصلة عن الأخرى، ولقد رأينا أن كل مرحلة من هـذه المراحل تتضمن مجموعة من الإجراءات التي تحقق أو تقوم بالتوزيع فيها. وما نؤكده بالنسبة لهذه الإجراءات : أنه في مجموعها ككل تخدم هـدف التوزيع في الإسلام ككل، وليست إجراءات منفصلة، بمعنى أن كل إجراء أو أكثر يخدم مرحلة من المراحل فحسب، وإنما نجد أن هـذه الإجراءات وما فيها من اتجاهات، وتأثيرات، تكمل بعضها، كما أن القول بهذه المراحل لا يعني ترتيبا لسياسات الدولة الإسلامية في موضوع التوزيع، وإنما تعمل كلها معا أو بعضها وفق ما تقتضيه مصلحة الجماعة الإسلامية. [ ص: 74 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية