الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          الفرع الرابع: استنتاج التصور الإسلامي لتوجيه وتخطيط الاستثمار (تحليل اقتصادي)

          عرضت ثلاثة أبعاد بهدف البحث عن التصور الإسلامي، لتوجيه وتخطيط الاستثمار. عرضت أولا للأدلة التي تثبت المسئولية الجماعية والإسلامية في عملية الاستثمار. ثم عرضت ثانيا للأدلة التي تثبت مسئولية ولي الأمر عن توجيه الاستثمار بحيث يحقق التنمية الاقتصادية. وأخيرا عرضت للأدلة التي تثبت مسئولية ولي الأمر عن الاستثمار بهدف إعادة توزيع الدخل والثروة.

          وسوف أحاول الآن أن أستنتج، بناء على ما عرضته من أدلة تتعلق بهذه الأبعاد الثلاثة التصور الإسلامي لتوجيه وتخطيط الاستثمار.

          أولا: يتأسس التصور الإسلامي لتوجيه وتخطيط الاستثمار على غرس الإحساس بالمسئولية الجماعية نحو استثمار رأس المال. ولقد عرضت في الفقرة الأولى لهذا الضابط من ضوابط المنهج الإسلامي لتوجيه وتخطيط الاستثمار، بعض الأدلة، التي أعتقد أنها تدل على ذلك، وهي أدلة تعلقت بمسئولية الجماعة الإسلامية عن التصرف واستثمار أموال السفهاء، كذلك أموال اليتامى. ويمكن أن نضيف إلى هـذه الأدلة أدلة أخرى، تخدم المعنى نفسه، الذي استنتجناه وهو غرس الإحساس بالمسئولية الجماعية نحو المال. من هـذه الأدلة قوله تعالى : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) " البقرة : 29 " وإن كنت أرتبط بالأدلة الأولى أكثر من هـذا الدليل الجديد، ذلك أن الأدلة الأولى تتجه مباشرة إلى إثبات مسئولية الجماعة الإسلامية عن استثمار أموال فئات معينة من الناس، تعجز بنفسها عن التصرف الصحيح في [ ص: 112 ] أموالها، أما هـذا الدليل الجديد فإنه يغرس في النفس الإحساس بحقنا جميعا في ما خلقه الله، وأوجده في هـذه الأرض.

          غرس الإحساس بالمسئولية الجماعية له أهميته توجيه أو تخطيط الاستثمار. ذلك أن عملية الغرس هـذه تثبت نوعين من النتائج، التي أعتقد أنه تشكل محاور أساسية في التنظيم الإسلامي للتدخل في المال : استثمارا أو غيره. تتمثل النتيجة الأولى في محور نفسي أساسي وضروري لنجاح تدخل الجماعة ممثلة في ولي الأمر في الحياة الاقتصادية الخاصة للأفراد. ذلك أن الهدف الإسلامي من غرس الإحساس بالمسئولية الجماعية نحو استثمار المال يعمل في اتجاهين : يتعلق الاتجاه الأول بالمالكين لرأس المال ملكية خاصة، والذي يقوله ويغرسه فيهم الإسلام هـنا، وهو غرس وقول نفسي : إن ما في أيديكم للجماعة الإسلامية عليه حقوق. ويهيئ هـذا الغرس النفسي نفوس أصحاب رأس المال الخاص لقبول أنواع من التدخل، من الذين يمثلون الجماعة الإسلامية، وقد يكون هـذا التدخل في صورة مخففة كتوجيه الاستثمار باستخدام سياسيات اقتصادية معينة، أو بالتدخل تدخلا مباشرا لتخطيط الاستثمار. هـذا هـو المعنى النفسي الأول. وهو كما قلت يتجه إلى المالكين لرأس المال ملكية خاصة. أما المعنى النفسي الثاني فإنه يتجه إلى ولي الأمر كممثل ومسئول عن الجماعة الإسلامية، والمعنى الذي يغرسه الإسلام هـنا: هـو أنه يجعل ولي الأمر يحس بأنه مسئول أمام الله عن التوجيه الصحيح لرأس المال الخاص.

          من تفاعل المعنيين السابقين، المعنى الذي يغرس في نفوس المالكين لرأس المال ملكية خاصة، والمعنى الذي يغرس في نفوس ولي الأمر، ينتج الأثر الإسلامي المستهدف من غرس الإحساس بالمسئولية الجماعية نحو استثمار الجماعية نحو استثمار الأموال. يتمثل هـذا الأثر فيما أسميه بالتهيئة النفسية لقبول التدخل: توجيها أو تخطيطا في الاستثمار الخاص. ولأجل أن يتضح ما أريد أن أقول، أشير إلى معنى مماثل في الاقتصاديات الوضعية.

          نتكلم كثيرا عن المشاكل التي تواجه التنمية الاقتصادية في البلاد النامية.

          ويرجع بعضهم ذلك إلى أن سكان هـذه البلاد يهيئوا التهيئة النفسية الصحيحة [ ص: 113 ] والكافية لما تتطلبه التنمية الاقتصادية من سلوكيات معينة، ترتبط بالتصنيع، أو غيره من مظاهر التنمية الاقتصادية. هـذه الفكرة التي أشير إليها في الاقتصاديات الوضعية تقرب لنا المعنى الذي أريد استنتاجه من بحث البعد الأول من أبعاد أو تخطيط الاستثمار في الإسلام، وهو ما أسميه : غرس الإحساس بالمسئولية الجماعية نحو استثمار رأس المال. هـذا المعنى هـو: أن الإسلام يريد أن يضمن نجاح تدخل ولي الأمر حين يجيء، لذلك هـيأ نفوس المالكين لرأس المال ملكية خاصة وولي الأمر، الاثنين معا، لهذا التدخل ليضمن النجاح له.

          هناك جانب آخر يمكن استنتاجه، أو ربطه بهذا البعد الأول من أبعاد توجيه أو تخطيط الاستثمار، يرتبط هـذا المعنى بفكرة الحق والواجب، كما تعرض في الاقتصاد الإسلامي. وأيضا، أحاول أن أقرب المعنى هـنا بالمقارنة مع الاقتصاديات الوضعية. حين يحدث التدخل من الدول التي تأخذ بالنظم الوضعية في الملكية الخاصة، يقوم الحاكم بهذا التدخل على أنه حق له.

          ويتصرف من منطلق أنه يملك حقا كنتيجة قد يتجاوز الحد الذي ينبغي ألا يتخطاه، وهو في نفسه قد يجد مبررا لتجاوزه، لأنه يعتقد أنه يملك حقا. من الوجه الآخر نجد أن مالك رأس المال الخاص، الذي تتدخل الدولة باسم النظم الوضعية في ملكيته الخاصة، ينظر إلى هـذا التدخل على أنه اعتداء على حقه، الذي يمثل اعتداء على ملكيته الخاصة، وعلى حقوقه المقررة عليها.

          وهكذا ينظر المالك الخاص إلى أي نوع وأية صورة من صور تدخل الدولة على أنه تجاوز للحد. يصور هـذا التقابل المتعارض بين وجهتي النظر السابقتين أحد المعوقات الاقتصادية التي تواجه البلاد النامية وهي تخطط للتنمية. بل إن ذلك يكون أحد أسباب فشل التنمية الاقتصادية، وذلك بسبب المد والجزر الذي يلاحظ في التدخل، ويقصر عما كان يجب عليه عمله. وكلا الأمرين:

          الإفراط والتفريط، يجد تبريره في أن التدخل منظور إليه من زاوية الحاكم على أنه حق. وفي المقابل، أيا كانت درجة التدخل، ينظر مالك رأس المال إليه على أنه تدخل غير مشروع في ملكيته. ولهذا يقاوم هـذا التدخل ويعمل على إفساده، وسوف ينقض عليه عندما تواتيه الفرصة. ويفسر لنا هـذا ما يحدث في [ ص: 114 ] البلاد النامية التي تأخذ بالتخطيط، ثم يجيء من يلغيه كلية، وهكذا في فترة يتقرر حق الدولة في التدخل الاقتصادي، ثم بعد ذلك يجيء من يتنكر كلية لهذا الحق.

          أقول: إن هـذا المد والجزر في التوجيه أو التخطيط الاقتصادي، إنما ينشأ بسبب أن النظم الاقتصادية الوضعية لا تكيف تكييفا صحيحا التداخل بواسطة الدولة ولا تعالجه معالجة صحيحة.

          نعود إلى المنهج الإسلامي لتوجيه وتخطيط الاستثمار، الذي هـو نوع من أنواع تدخل ولي الأمر في النشاط الاقتصادي. يكيف الإسلام التدخل من جانب ولي الأمر بأنه واجب عليه، لذلك يلتزم عند تنفيذ هـذا الواجب، بما يتقرر عليه. ولهذا لن يوجد من الحاكم إفراط أو تفريط في التدخل، إذا كان هـناك التزام كامل بالمنهج الإسلامي، هـذا من جانب، ومن جانب آخر يكيف الإسلام التدخل من جانب صاحب الملكية الخاصة، بأن ولي الأمر يتدخل لأن الشرع يعطيه ذلك، يفهم هـذا من أن الله عبر عن مال السفيه، بأنه مال الجماعة التي يمثلها ولي الأمر، أي له حق التدخل المشروع والمحدد من قبل الشارع ولن يقعد للتدخل بالمرصاد، ينقض عليه عندما تواتيه الفرصة، لأن مقاومته للتدخل تفسر على أنها خروج على الشرع.

          وهكذا تتبين الأهمية القصوى لهذا البعد الأول من أبعاد توجيه أو تخطيط الاستثمار في المنهج الإسلامي. وهو بعد كما قلت : يؤسس ويعالج جوانب نفسية تتمثل في غرس المسئولية الجماعية عن استثمار المال. وينتج هـذا، الاستقرار في التوجيه والتخطيط، وبالتالي الاستقرار في إدارة الاقتصاد القومي.

          ثانيا: يتأسس التصور الإسلامي لتوجيه وتخطيط الاستثمار ثانيا على تحديد مسئولية ولي الأمر عن الاستثمار بهدف التنمية ويمثل ذلك البعد الثاني في هـذا التصور. ولقد عرضت الأدلة التي اعتمدت عليها في تأسيس هـذا البعد.

          وأعيد التذكير بهذه الأدلة مرة أخرى في مجال عرض التصور الإسلامي العام لتوجيه وتخطيط الاستثمار، كما أضيف ما أراه يتصل بموضوعنا من أدلة جديدة. [ ص: 115 ]

          في الحديث الذي أوردته ( عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، من ولاه الله من أمر المسلمين.. ) إلى آخر الحديث، نجد في هـذا الحديث توجيه من الرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى مسئولية ولي الأمر عن التنمية الاقتصادية. وما أريد أن أشير إليه بصفة خاصة، هـو أن الرسول صلى الله عليه وسلم يربط مسئولية ولي الأمر عن التنمية بيوم القيامة، ويدل هـذا من جديد على ما سبق أن عرضته من اعتبار دور العقيدة الإسلامية في المنهج الإسلامي للاستثمار، وأريد أن أضيف إلى هـذا الدليل الأدلة الآتية :

          يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته. ) ويروى أيضا عن الرسول صلى الله عليه وسلم : ( سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته، من علم علما، أو كرى نهرا أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو درس مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته. ) ويروى أيضا عن الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان إلا كان له به صدقة ) . هـذه هـي الأدلة الجديدة التي أضيفها إلى الأدلة التي عرضتها قبل ذلك وأنا بصدد إثبات توجيه أو تخطيط الاستثمار.

          إذا أخذنا هـذه الأدلة، نستنتج منها أن الإسلام يجعل ولي الأمر مسئولا عن توجيه الاستثمار لخدمة هـدف التنمية الاقتصادية، كأحد الأهداف المقصودة من الاستثمار. بل إن إمعان النظر في هـذه الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم يكشف عن أن توجيه صلى الله عليه وسلم بشأن التنمية، قد شمل كل ما يسميه الاقتصاديون بالهيكل الأساسية للتنمية، ويعني هـذا المصطلح اقتصاديا أن هـناك أساسيات ضرورية لبدء وانطلاق التنمية الاقتصادية، ومنها :إعداد شبكة الطرق اللازمة، وشبكة الري اللازمة، أو الموانيء، وأيضا تدريب الحد الأدنى من الأيدي العاملة التي تعتبر كأساس لبدء التنمية. وأشير إلى أنني ألمح في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ذكرته: " سبع يجري للعبد أجرهن " إلى آخر الحديث، ألمح في هـذا الحديث دليلا على تجهيز وتوفير ما يسمى بالهياكل الأساسية للتنمية التي سبقت الإشارة إليها [ ص: 116 ] يقول الاقتصاديون أيضا: إن التنمية الاقتصادية تعتمد على دعامتين : المتاح من عوامل الإنتاج، والتقدم التكنولوجي . وإذا أمعنا النظر في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم المشار إليه نجد أنه قد شمل هـاتين الدعامتين، ذلك أنه يشير إلى تنمية عوامل الإنتاج، بالإضافة إلى العلم أي التكنولوجيا.

          تكشف دراسة التاريخ الإسلامي، أن تطبيقات الخلفاء الراشدين قد التزمت بالتوجيه النبوي الكريم بشأن التنمية الاقتصادية. ولقد سبق أن عرضت قول عمر، رضي الله عنه : " أن الله استخلفنا على عباده " إلى آخر ما ذكرته. وأضيف في هـذا الصدد قولا آخر لعمر هـو: " لو أن شاة عثرت على شاطيء الفرات لسئل عنها عمر يوم القيامة " . كما عرضت أيضا قول الإمام علي كرم وجهه : " وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج. " تمثل توجيهات عمر وعلي رضي الله عنهما بشأن التنمية الاقتصادية نماذج وسياسات للتنمية الاقتصادية، بنيت على الأسس الإسلامية التي علمها لهما الإسلام.

          يمثل أيضل ما نقلته عن الإمام الماوردي من أن مسئولية الحاكم عمارة البلدان باعتماد مصالحها وتهذيب سبلها ومسالكها، يمثل هـذا القول الحلقة الثالثة في الأدلة التي اعتمدت عليها لإثبات توجيه وتخطيط الاستثمار إسلاميا، ذلك أن هـذا القول يمثل التقنين الفقهي من الفقيه الماودري للأحكام الإسلامية التي تتعلق بالتنمية الاقتصادية.

          ماذا يعني اقتصاديا ما عرضته في هـذا البعد الثاني، هـو البعد الذي يتعلق بتوجيه أو تخطيط الاستثمار لتحقيق هـدف التنمية الاقتصادية ؟ يتضح المعنى الاقتصادي لهذا البعد بالمقارنة بما نعرفه من دراستنا للاقتصاد الوضعي.

          وسوف أختار فكرتين أعرض في ضوئهما المعنى الاقتصادي الذي أبحث عنه، تتعلق الفكرة الأولى بأنواع التخطيط، و هـل يمكن استنتاج شيء من الأدلة التي عرضتها في هـذا الصدد بالنسبة للاقتصاد الإسلامي ؟، وتتعلق الفكرة الثانية [ ص: 117 ] بدور الدولة، وهل يكون دورها في الإسلام هـو كما يصوره النظام الفردي أم لها دور اقتصادي متميز ؟

          أبحث أولا الفكرة الأولى وهي أنواع التخطيط. كنت أشرت في بداية بحثي لهذا الضابط، توجيه أو تخطيط الاستثمار في المنهج الإسلامي، إلى أنواع التخطيط، وما ذكرته هـناك عن هـذا الموضوع كان على سبيل المثال، وليس على سبيل الحصر، وتبين أن الاقتصاديين يميزون بين أنواع عديدة من التخطيط، والسؤال الآن هـو : أين الاقتصاد الإسلامي من ذلك ؟

          بناء على ما عرضته من أدلة إسلامية، أعتقد أن هـذه الأدلة تثبت وتقرر نوعا من تدخل الدولة، وهذا التدخل هـو أهم من أن يكون توجيها أو تخطيطا، بمعنى أن هـذا التدخل قد يقف عند المرحلة التي نسميها في الاقتصاد بالتوجيه، وهي المرحلة التي تتدخل فيها الدولة في إدارة الاقتصاد القومي، ليس بطريقة مباشرة إنما بطريقة غير مباشرة مثال ذلك : عندما يرى صانعوا القرار الاقتصادي أن هـناك تضخما، أي ارتفاعا في الأسعار، فإنهم يحاولون علاج ذلك بأدوات السياسية النقدية، أو بأدوات السياسية المالية، وهي أدوات معروفة لدراسي الاقتصاد، من أمثلة أدوات السياسة النقدية إنقاص العرض النقدي، ومن أمثلة أدوات السياسة المالية إنقاص الإنفاق العام، ويأمل صانعوا السياسة بواسطة استخدام مثل هـذه الأدوات كبح التضخم وخفض الأسعار.

          هذا نوع من أنواع التدخل، ويمكن أن يمثل نوعا من التوجيه أو التخطيط وقد يكون التدخل الإسلامي، الذي تقر بناء على الأدلة التي عرضتها، في مرحلة أكثر تدخلا من المرحلة التوجيهية التي أشرت إليها، بمعنى أن التدخل قد يكون مباشرا وبخطة محددة مفصلة. مثال ذلك أن تكون الأمة الإسلامية في تخلف اقتصادي، وليس هـناك وسيلة لإخراجها من هـذا التخلف إلا بخطة اقتصادية، وهنا يكون تدخل الدولة أو إدارة الاقتصاد القومي وفق خطة موضوعة يمكن أن تعتمد وتقر بناء على الأدلة التي عرضتها، ونحن في هـذا لا نجهد الدليل الإسلامي، إننا نتساءل: [ ص: 118 ]

          ماذا يعني قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع وهو مسئول عن رعيته ) ؟

          إذا كان هـناك مسلمون متخلفون اقتصاديا، أليست مسئولية الإمام هـنا هـي أن يضع خطة اقتصادية لتنمية اقتصادهم، أية مسئولية أخرى يمكن أن تعادل هـذه المسئولية ؟ ونتساءل أيضا ماذا يعني قول عمر رضي الله عنه : " لو أن شاة عثرت على نهر الفرات لسئل عنها " ؟ إذا كان عمر سوف يسأله الله عن الشاة إذا عثرت، ألا نعتقد أن الله سيسأل الحاكم عن ملايين من المسلمين تموت جوعا بسبب التخلف الاقتصادي؟، وإذا كان سيسأل، وسوف يسأل الإمام حتما وقطعا فلا بد أن نعطيه الوسيلة لأن يدرأ مسئوليته، والوسيلة هـنا هـي أن يدير الاقتصاد بواسطة الدولة: إدارة غير مباشرة، أي استخدام التوجيه بأدوات السياسات الاقتصادية المعروفة، أو إدارة مباشرة، أي استخدام التخطيط المباشر بأي نوع من أنواع التخطيط.

          وإجمالا، أعتقد أن تدخل الدولة، الذي يقرره الإسلام بشأن الاستثمار، هـو تدخل يتسع بحيث يشمل أي نوع يحقق مصلحة المسلمين فإذا كان يكفي مجرد توجيه الاقتصاد القومي بطريقة غير مباشرة، يكتفي الإسلام بهذا القدر من التدخل. أما إذا كان العلاج الاقتصادي، يستلزم نوعا من التدخل أبعد من النوع السابق، فإن الإسلام يقر مثل هـذا النوع. ويمكن أن يأخذ هـذا النوع أي شكل من أشكال التخطيط : مركزي أولا مركزي، وظيفي أو هـيكلي، إلى آخر ما نعرفه من أنواع التخطيط.

          أنتقل الآن إلى بحث الفكرة الثانية، وهي تتعلق بدور الدولة الاقتصادية في المنهج الإسلامي. ولأجل أن يتضح ما أقصده بهذا المصطلح، أعرض لبعض ما يتعلق بهذا الموضوع في المناهج الاقتصادية الوضعية.

          يتحدد دور الدولة كما يعرضه فلاسفة المذهب الفردي، في أنها تقوم بوظائف ثلاث رئيسة، وهي : الدفاع، والأمن، والقضاء. ولا يتصور أو لا يسمح هـؤلاء الفلاسفة بأن يكون للدولة دور اقتصادي. ولهذا تسمى الدولة عندهم بالدولة الحارسة، وفي مقابل المذاهب الفردية، نجد المذاهب [ ص: 119 ] الجماعية، وهي تقر تدخل الدولة بكل صور التدخل.

          أين يمكن أن نجد الموقف الإسلامي بخصوص هـذا الموضوع؟ مما سبق من الأدلة نستنتج أن فكرة الدولة الحارسة هـي فكرة مستبعدة كلية من المنهج الإسلامي. إن ولي الأمر في التصور الإسلامي منوط به مسئوليات متعددة، ومنها مسئوليات اقتصادية. لنعيد النظر من جديد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من ولاه الله شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم، وخلتهم، وفقرهم، احتجب الله دون حاجته، وخلته، وفقره، يوم القيامة ) . إن نوع المسئولية التي يشير إليها هـذا الحديث هـي مسئولية اقتصادية. بل إنها تقع في نطاق ما يسميه الاقتصاديون باقتصاديات التنمية، ويجعل الرسول صلى الله عليه وسلم ولي الأمر مسئولا عن وضع خطة اقتصادية للتنمية وللقضاء على التخلف. وهكذا لا تكون الدولة في المجتمع الإسلامي دولة حارسة، وإنما هـي دولة عليها مسئوليات اقتصادية. وكذلك ما يشير إليه قول عمر رضي الله عنه : لو أن شاة عثرت على شاطئ نهر الفرات لسئلت عنها، وأن المسئولية التي يلزم عمر نفسه بها، باعتباره حاكما للمسلمين، هـي مسئولية اقتصادية. وأيضا رأي الإمام الماوردي : إن من مسئولية الحاكم عمارة البلدان، باعتماد مصالحها، وتهذيب سبلها ومسالكها، وما يقرره المارودري هـنا كأحد مسليات الحاكم الإسلامي يتعلق بالمسئوليات الاقتصادية.

          وهكذا فإن الدولة في المنهج الإسلامي ليست دولة حارسة، وإنما هـي دولة عليها مسئوليات اقتصادية ومن هـذه المسئوليات توجيه أو تخطيط الاستثمار، وسوف تتحدد حدود تدخل الدولة في هـذا الأمر بما تحدده مصلحة المسلمين: إذا كان الأمر يعالج بواسطة التدخل غير المباشر، فإن هـذا يكفي إسلاميا، أما إذا كان العلاج لا يكون إلا بالتدخل المباشر، فإن هـذا يستلزم إسلاميا.

          ثالثا: يتأسس التصور الإسلامي لتوجيه أو تخطيط الاستثمار على توجيه التنمية بهدف إعادة توزيع الدخل. ويمثل هـذا البعد الثالث في المنهج الإسلامي، لتوجيه أو تخطيط الاستثمار. [ ص: 120 ]

          لقد اعتمدت في عرض هـذا البعد الثالث على كثير من الأدلة الإسلامية.

          وسوف أحاول أن أستعيد بعضها، وأنا في مجال استنتاج التصور الإسلامي العام، لتوجيه وتخطيط الاستثمار عرضت أولا أدلة عن أنواع من الأموال التي دخلت فيما يمكن أن نسميه بالمصطلح الحديث ملكية الدولة ، وهي تشمل أرض الحمى البقيع ، وأراض العراق، على سبيل المثال، وقد لفت نظري تعليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمنع توزيع أراضي العراق على الفاتحين :

          إذا وزعتها الآن فماذا يبقى لمن يجيء بعدنا ؟ أستنتج من هـذا التعليل أن عمر استخدام الملكية العامة لعمل نوع من إعادة توزيع الثروات والدخول، هـذا النوع لم يعرف، ولم يطبق في جميع النظم الاقتصادية الوضعية، وهو ما أسميه إعادة التوزيع بين الأجيال. لقد استخدم عمر رضي الله عنه ما دخل في الملكية العامة لضمان دخل للأجيال التي تأتي بعده، وإذا لم يكن هـذا إعادة توز يع للثروات والدخول، فماذا يكون إذن ؟ إذا أردنا أن نفهم جيدا عظمة هـذا المنهج الإسلامي، فلنقابله بما يحدث لنا الآن. إن الجيل الذي سبقنا بسنوات تعد على أصابع اليد الواحدة، وأتيحت له فرص الامتلاك بسبب مشروع، هـذا الجيل يطحن كل الأجيال التي تلته في الدرجة الأولى وبوسائل اقتصادية. إنه لو طبق المنهج الإسلامي في إعادة توزيع الثروات بين الأجيال لما حدث ما يحدث الآن.

          عرضت بعد ذلك أدلة أخرى عن أموال دخلت فيما نسميه بالمصطلح الحديث ملكية الدولة، أو الملكية العامة وتمثل هـذا في فيء بني النضير ، وفي أموال الحمى. وقد لفت نظري الأمر الذي أصدره عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعامله على الحمى، إذ قال له: " اضمم جناحيك على المسلمين، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياك ونعم ابن عفان وابن عوف. " ويعني عمر بذلك أن تستثمر الأموال العامة، بحيث تعطى الأولوية لعائد استثمارها لأصحاب الدخل الأقل : " رب الصريمة ورب الغنيمة " ، وهذا ما نسميه في المصطلحات الاقتصادية المعاصرة بإعادة توزيع الثروات والدخول .

          إن ما فعله عمر رضي الله عنه ، هـو توجيه وتخطيط للاستثمار، بحيث يعمل على إعادة توزيع الثروات والدخول لصالح الفئات الأقل دخلا. ويعني ما [ ص: 121 ] عرضته عن هـذا البعد الثالث من وجهة النظر الاقتصادية، أن توجيه أو تخطيط الاستثمار في المنهج الإسلامي يستهدف إعادة توزيع الثروات والدخول.

          يعرف الذين يدرسون الاقتصاد الوضعي أن هـناك عددا من النماذج التخطيطية قد صاحب الاهتمام بالتنمية الاقتصادية الاهتمام بهذه النماذج.

          وتميزت النماذج التخطيطية، التي قدمت في المرحلة الأولى، وهي المرحلة التي تغطي الأربعينات والخمسينات وبضع سنين من الستينات، تميزت النماذج بأنها اعتبرت متغير الإنتاج وحده، وهو ما يمكن أن نعبر عنه بمتغير الدخل القومي ، أو متوسط دخل الفرد.

          وقد كشفت الدراسة التطبيقية عن أن التنمية الاقتصادية قد صحبتها آثار توزيعية تدميرية [1] . وقد قيل : إن من أسباب هـذه النتائج سيطرة مثل النماذج السابقة، والتي اعتبرت المتغير الإنتاجي ، وأهملت المتغير التوزيعي .

          وفي السبعينات، قدمت نماذج تخطيطية جديدة، وقد اعتبرت مع المتغير الإنتاجي المتغير التوزيعي. ويستهدف بهذه النماذج علاج الآثار التوزيعية السيئة، التي صاحبت أو ترتبت على النماذج الأولى.

          لنرجع إلى المنهج الإسلامي لتوجيه أو تخطيط الاستثمار، ولنستكشف المعنى الاقتصادي للبعد الثالث الذي قدمته. إن المعنى الاقتصادي الذي يستنتج من هـذا البعد هـو أن توجيه أو تخطيط الاستثمار، يجب أن يستهدف بجانب التنمية إحداث إعادة توزيع لصالح أصحاب الدخل الأقل. أو بتعبير عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " رب الغنيمة ورب الصريمة " . ولا أريد أن أقول : إن الاقتصاد الإسلامي بهذا يماثل آخر الاتجاهات في النماذج التخطيطية، حيث إن ذلك لا ينبغي أن يكون المنهج في دراسة وعرض الاقتصاد الإسلامي، إذ ينبغي عرضه كاقتصاد متميز وله ذاتيته المستقلة. [ ص: 122 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية