الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          الفرع الأول: الإلزام بالتشغيل الكامل للمال

          أعني بالتشغيل الكامل لرأس المال في هـذا الصدد: أن الإسلام يلزم ضمن منهجه لاستثمار رأس المال، أن يوجه إلى الإنتاج، وأن يوضع في خدمة المجتمع الإسلامي جميع وحدات رأس المال. ويتضمن هـذا ألا تكون أية وحدة من وحدات رأس المال عاطلة، أي لا تعمل في دائرة النشاط الاقتصادي المشروع. والدليل الذي أستند إليه في هـذا قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هـذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ) " التوبة: 34، 35 " .

          والسياق الذي وضع فيه تأثيم الاكتناز من حيث إنه قرن بالصد عن سبيل الله، وأكل أموال الناس بالباطل، وقرن تأثيم الاكتناز بأكل أموال الناس بالباطل، وما يتضمنه من حقوق للجماعة على المال الخاص، بحيث إن كنزه يقرن بأكل أموال الناس بالباطل؛ هـذا السياق يضع أساسا عقيديا للتشغيل الكامل للمال، لكن الذي أريد أن أقف عنده، هـو المعنى الذي يستنتج من تأثيم الإسلام للاكتناز في علاقته بالتشغيل الكامل لرأس المال. إن الاكتناز هـو جزء الادخار الذي لم يوجه إلى الاستثمار. وإذا التزم المسلم التزاما إسلاميا صحيحا بالمنهج الإسلامي، ومن هـذا المنهج تأثيم الاكتناز فسوف يوجه كل ادخاراته التي هـي جزء الدخل الذي يفيض عن الاستهلاك، سوف يوجهه إلى [ ص: 98 ] الاستثمار، ومعنى ذلك أنه وفق المنهج الإسلامي لا توجد رءوس أموال مكتنزة أي عاطلة.

          هناك دليل آخر يستدل به على التشغيل الكامل لرأس المال، وهذا الدليل يتعلق بالزكاة، التي يمكن أن ينظر إليها من إحدى زواياها على أنها تستهدف أن توجه رءوس الأموال إلى التشغيل، وألا تبقى عاطلة، وتستند وجهة النظر هـذه إلى تحليل طبيعة الزكاة، والتي يشير إليها القول المأثور: اتجروا بمال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة " . يعني هـذا أن بقاء رأس المال عاطلا وعدم تشغيله في النشاط الإنتاجي مع استمرار فرض الزكاة عليه يجعل رأس المال ينفد. وأريد أن أوضح رأيي في علاقة الزكاة بالإلزام بالتشغيل الكامل لرأس المال. ذلك أنه وإن كنت أرى أنه يمكن استنتاج علاقة بين فرض الزكاة والإلزام بالتشغيل الكامل لرأس المال، إلا أنه تكملة لرأيي، لا أعتقد أن هـذه العلاقة تمثل الهدف الرئيسي للزكاة، إذ أن للزكاة أهدافا ( اقتصادية ) أخرى أقوى وأوضح من هـذه الأهداف منها استخدام حصيلة الزكاة في تنمية العنصر البشري في المجتمع، وذلك بتوفيها حدا أدنى من الدخل لصاحب الحاجة، ومن هـذه الأهداف أيضا تقليل حدة التفاوت الدخلي بين أفراد المجتمع الإسلامي. وبمعنى آخر: إن الزكاة تمثل إحدى الأدوات المستخدمة في إعادة التوزيع في النظرية الاقتصادية الإسلامية. وهناك أهداف أخرى كثيرة للزكاة يمكن البحث عنها والرجوع إليها في الكتب المخصصة لدراسة الزكاة، كما أن الزكاة تستهدف أيضا هـدفا معنويا له أهميته في المجتمع، هـذا الهدف هـو خلق نوع من الترابط والتماسك والإحساس الجماعي المشترك، ماديا ومعنويا بين أفراد الجماعة الإسلامية. هـذه هـي بعض الأهداف الرئيسة للزكاة. أما علاقة فريضة الزكاة بالإلزام بالتشغيل الكامل لرأس المال، فهي نوع من أنواع الالتزام، أي الأمر الذي يترتب بالضرورة على أمر آخر.

          إذا قارنا بين المنهج الإسلامي للاستثمار، وبين المناهج الاقتصادية الوضعية، فيما يتعلق بالإلزام بالتشغيل الكامل لرأس المال، نجد أن للمنهج الإسلامي تميزة وذاتيته المستقلة في هـذا الصدد. ذلك أن الاقتصاديين يتكلمون عن ضرورة المساواة بين الادخار والاستثمار، وهي الفكرة ذات الأهمية [ ص: 99 ] الاقتصادية، هـي فكرة يربطها الاقتصاديون بالدورة التجارية.

          وهكذا يكون التشغيل الكامل لرأس المال، وإن استهدف في المناهج الاقتصادية الوضعية إلا أنه لا يستهدف كأداة في المنهج الاستثماري، بقصد تحقيق التنمية. في المقابل، إن الاقتصاد الإسلامي وهو يفرض، ويلزم بالتشغيل الكامل لرأس المال، يربط هـذا الإلزام بهدف التنمية. والقول المأثور الذي سبق ذكره وهو: " اتجروا بمال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة " هـو واضح في هـذا الربط، ذلك أن المقابل لتعطيل المال حسب هـذا النص:

          الاتجار به، والاتجار هـو مصطلح يكنى به عن تشغيل رأس المال في النشاط الاقتصادي، سواء أكان إنتاجا ماديا أم إنتاجا خدميا.

          وتربط كذلك الآية التي سبق الاستدلال بها، وهي آية تحريم وتأثيم الاكتناز، بين الإلزام بتشغيل رأس المال، وبين التنمية، ذلك أنها تربط بين اكتناز الأموال وبين منع إنفاقها في سبيل الله. الإنفاق في سيبل الله معنى واسع يشمل كل ما يدخل في مصالح الأمة.

          نستنتج أن الإسلام يجعل ضمن ضوابطه للملكية، وبالتالي لاستثمار رأس المال في التنمية، ومن الأدوات التي يستخدمها لتحقيق ذلك: الإلزام بالتشغيل الكامل لرأس المال.

          التالي السابق


          الخدمات العلمية