الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          الضوابط المعنوية:

          المبحث الأول:

          (اعتبار العقيدة)

          أعني باعتبار العقيدة الإسلامية في مجال تشغيل الملكية، والتصرف فيها، أن هـذا النشاط الاقتصادي يجب أن يمارس كجزء من العقيدة الإسلامية، هـذا من جانب، ومن جانب آخر، يجب أن يكون القائم به متحققا فيه وصف المسلم اعتقادا وسلوكا.

          قد يكون عرض الموضوع في هـذا الإطار مثيرا للتساؤل، ذلك أنه قد يكون هـناك من يرى أن أمر الاقتصاد يخضع أو ينظم بضوابط ومعايير تترجم في صيغ رياضية، غالبا كما تتوقف كفاءة الاستثمار ـ مثلا ـ على مقدرة وكفاءة المستثمر على التنبؤ بالأحداث التي سوف تحكم وتقع في سوق الاستثمار خاصة، وفي السوق بصفة عامة، لكني أعتقد أن مثل هـذا مردود عليه، حتى في النطاق الاقتصادي، ويكون بيان ذلك على النحو التالي:

          1- النظام الرأسمالي الذي تأخذ به كثير من دول عالمنا المعاصر كإطار يحكم نظمها، وأنشطتها الاقتصادية، هـذا النظام قد وجد بيئة ملائمة له في أوروبا ، وذلك بعد أن تغيرت مجموعة القيم والمبادئ، التي كانت تحكم تفكير وسلوك الإنسان الأوروبي، وذلك بأخذه بالفلسفة الفردية كإطار فلسفي يحكم تفكيره، ويأخذه بمعيار المصلحة الخاصة كحافز يوجه سلوكه ونشاطه الاقتصادي، وتعامل الأوروبي مع ذلك على أنه عقيدته. إذن يقبل اقتصاديا أن يكون السلوك الاقتصادي هـو تطبيق وتفريع للعقيدة، أي مجموعة القيم والمبادئ التي تحكم سلوك الأفراد.

          2- كتفريع لهذا التحليل العام، نجد أن مدارس الاختيار التكنولوجي [ ص: 78 ] على سبيل المثال، تصنف إلى ثلاث، ما يهمنا منها المدرسة الثالثة، وهى المدرسة التي يبنى فيها التحليل على أساس أن التكنولوجيا الملائمة لن تتدفق إلى أية دولة محل البحث إلا إذا حدث تغيير جوهري في هـذه الدولة، بحيث يشمل هـذا التغيير المعتقدات، التي تحكم تفكير وسلوك الناس [1] .

          ويعني هـذا أنه إذا كانت عملية الاختيار التكنولوجي الملائم ترتبط بمعتقدات الأفراد، فإن السلوك الاقتصادي يكون كذلك هـو أيضا.

          3- في السنوات الأخيرة بدأت تواجه مجموعة البلاد النامية مشاكل حادة سواء في المجالات الاقتصادية، أو غيرها من المجالات وحاول بعض الاقتصاديون بحث أسباب هـذه المشاكل، وكان مما قيل: إن الإطار الفلسفي والفكري الذي يحكم أفراد هـذه المجتمعات من بين هـذه الأسباب، ويعنون بالإطار الفلسفي والفكري: مجموعة القيم والمبادئ التي تحكم أسلوب تفكير الناس، وهذا يعني أنهم يتكلمون عن العقيدة.

          4- إذا انتقلنا إلى من يسمون بالاشتراكيين ، اقتصاديين أو غير اقتصاديين، نكتشف أنهم يبنون كل تحليلهم للمشاكل الاقتصادية أو غيرها كتفريع لمذاهبهم، وكتطبيق لذلك. كما نجد أن بعض البلاد النامية، وبعض البلاد الإسلامية التي تصنف ضمن هـذه المجموعة من البلاد، قد فسرت المشاكل التي تواجهها بسبب أنها لم تأخذ بالجرعة الكافية من التعاليم الاشتراكية، أو لم تأخذ بالاشتراكية ككل، ونحن نعرف أن المذهب الاشتراكي يطرحه أنصاره على أساس مذهب شمولي، له رؤياه الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وكنتيجة لذلك فإن ربط الاشتراكيين مشاكل البلاد النامية، وإيجاد حلول لها بالاشتراكية، هـو إدخال لفكرة العقيدة في مجال النشاط الاقتصادي.

          وهكذا ننتهي إلى أن التساؤل الذي يثار بدهشة من بعضهم حين نتكلم نحن الذين نهتم أو نشتغل بالاقتصاد الإسلامي بضرورة الارتباط بالعقيدة كجزء من المنهج الاقتصادي هـو تساؤل غير صحيح، إذ إن موضوع العقيدة مثار اقتصاديا تحت أي اسم، وتحت أي عنوان، وفي أي مذهب. [ ص: 79 ]

          وقد تكون هـنا كلمة من الضروري توجيهها إلى بعض الذين يهتمون بالاقتصاد الإسلامي ذلك أنهم قد يرون أننا سوف نتقدم بدراسة الاقتصاد الإسلامي بقدر ما نربطه بالاعتبارات المادية، وفي المقابل أرى شخصيا ومع آخرين أن التقدم الحقيقي في دراسة الاقتصاد الإسلامي يجيء من ربطه بالقيم والمبادئ الإسلامية، أي بالعقيدة الإسلامية، والاحتفاظ له بصبغته الحقيقية، وعدم مسخه بوضعه في قوالب الاقتصاد الوضعي.

          بعد هـذا التوضيح الذي كان ضروريا لبيان الربط بين القيم والمبادئ، أي بين العقيدة، وبين النشاط الاقتصادي وفق تحليل الاقتصاديين، أنتقل إلى عرض الأدلة التي أستند إليها في أن الإسلام ينظر إلى النشاط المتعلق باستخدام الملكية والتصرف فيها، على أنه ممارسة للعقيدة، وكذا ينظر الإسلام إلى المستثمر على أنه يلزم أن يكون مسلما اعتقادا وسلوكا.

          أ - نأخذ أولا آيات تحريم الربا من أدلة تحريم الربا قول الله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) ( البقرة : 278-281 ) .

          إذا نظرنا إلى هـذه الآيات التي تحرم الربا نكتشف أن الله يوجه الخطاب إلى الذين آمنوا واتقوا الله، ويعني هـذا أنه إذ كان تحريم الربا هـو أحد التشريعات الإسلامية بشأن المال فإن الإسلام يوجه بداية الخطاب فيه إلى الذين آمنوا واتقوا الله، أي أن الأمر كله التزام عقائدي وسلوك عقائدي أيضا، ونوجه النظر أيضا إلى الآية الأخيرة من الآيات السابقة وفيها نجد : ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) إلخ.. ويعني هـذا أيضا أن الأمر في:

          ( الاستثمار ) ليس مقدار العائد المادي وحده، وإنما الأمر مرتبط بالعقيدة وبالسلوك الذي سوف يحاسب عليه المؤمن يوم القيامة. [ ص: 80 ]

          ويتأكد الربط بين العقيدة وتشغيل الملكية واستخداماتها إذا عرفنا معنى المتقي، وهو الذي يتحقق في صاحبه وصف التقوى، الذي تكرر في الآية محل الذكر أكثر من مرة، إن معنى المتقي كما يفسره القرآن هـو :

          ( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون ) " البقرة : 1 ـ 4 " .

          هذه الآيات تحدد أن المتقي هـو الذي يؤمن بالغيب ويقيم الصلاة، وينفق في سبيل الله، ويؤمن بالرسل، ويؤمن بالآخرة، إلى آخر الأوصاف التي وصف بها وهذه الأوصاف كلها تتعلق بالعقيدة. والشيء نفسه، أي ربط تحريم الربا بالعقيدة، نجده في أية أخرى من آيات تحريم الربا، وهي : ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ) " آل عمران : 130- 132 "

          وهنا أيضا نجد أن تحريم الربا إسلاميا يوجه في الخطاب إلى المؤمنين الذين اتقوا والذين يعملون ليوم القيامة، أي تحريم الربا مربوط بأمور كلها تتعلق بالعقيدة.

          ب ـ تربط أيضا قصة الرجلين التي وردت في سورة الكهف بين العقيدة وبين موضوع المال؛ استثمارا أو غيره، تقول الآيات التي تحكى هـذه القصة :

          ( واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا قال له صاحبه وهو [ ص: 81 ] يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا ) " الكهف: 32 ـ 44 " .

          إن هـذه الآيات كلها تنظم استخدام المال على أنه جزء من العقيدة. إن الرجل الذي يقول لصاحبه : ( لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ) : يشير إلى أن المال أو استخدامه لن يكون سببا في إشراكه بالله. وآية الختام في هـذه القصة : ( هنالك الولاية لله الحق هـو خير ثوابا وخير عقبا ) هـذه الآية تفوض الأمر وتنقل كل الولاية بما فيها ولاية المال لله الحق. وأخيرا أذكر الآيات الآتية : ( إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد قادرين فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ) " القلم : 17 : 33 " . [ ص: 82 ]

          تشير هـذه الآيات إلى قصة بستان، حيث كان لرجل ينادي الفقراء وقت جني الثمر، ويترك لهم ما في خطاف المنجل أو ألقته الريح، فلما مات لم يرد أبناؤه أن يقتدوا به، فحلفوا ليقطعن الثمرات وهم داخلون في الصباح [2] .

          فلما فعلوا ذلك حل بهم العذاب بإهلاك الله بستانهم، وهنا قالوا سبحان ربنا.

          والنتيجة التي انتهي إليها هـي: أن الإسلام ينظر إلى استخدامات الملكية على أنها أمور مرتبطة بالعقيدة الإسلامية، ولذلك يلزم أن يكون القائم بذلك متحققا فيه وصف المسلم، اعتقادا وسلوكا، وهكذا. يكون المنهج الإسلامي في هـذا الأمر الاقتصادي مرتبطا ومتفرعا عن المنهج الإسلامي العام.

          وهناك نتيجة أخرى تكون مرتبطة ومتفرعة عن النتيجة السابقة، وهي أن ربط ذلك بالعقيدة يستلزم ربط جميع الضوابط وجميع الأهداف، التي ينظم بها الإسلام رءوس الأموال بالعقيدة. وتبنى على هـذا نتيجتان: الأولى هـي أنه إذا كنا نقول على سبيل المثال: أن هـناك مسئولية جماعية على مالك رأس المال باعتباره مستثمرا، بحيث أنه في استثماره يجب أن يراعي مصلحة الجماعة؛ إذا كنا نقول هـذا فإنه يعني أن هـذا الهدف هـو جزء من عقيدة المسلم الثانية تعني أنه إذا كانت كل الضوابط والأهداف التي ينظم بها الإسلام رءوس الأموال هـي تفريع للعقيدة، فإنه يعني أن من الوسائل التي تستخدم للرقابة على هـذا السلوك مراقبة الله الذي يراقب سلوك المسلم في العقيدة ككل.

          وتبقى ملاحظة أخيرة في دراستنا لهذا الضابط الأول ـ وهو اعتبار العقيدة الإسلامية ـ هـذه الملاحظة تتعلق بأن الارتباط بالعقيدة ليس قاصرا على ما ذكر فحسب، وإنما الارتباط بالعقيدة يشمل كل أنواع الأعمال الاقتصادية التي يقوم بها الفرد.

          من أدلة ذلك قول الله تعالى : ( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور ) " سبأ : 13 " . [ ص: 83 ]

          وفي آية أخرى يقول تعالى: ( وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ) " الأنبياء : 80 " .

          وآية أخرى أيضا مع المعنى الذي قلناه وهى : ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون ) ( الشعراء : 128 ـ 131 ) . [ ص: 84 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية