الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          في الاقتصاد الإسلامي (المرتكزات - التوزيع - الاستثمار - النظام المالي)

          الدكتور / رفعت السيد العوضي

          المبحث الثالث

          الاقتصاد الإسلامي بديل للاقتصاد الوضعي

          الفرع الأول: الاقتصاد (الوضعي) تاريخ للعالم الغربي

          الاقتصاد على النحو الذي يعرف به في الكتب المنشورة تكون على مراحل تاريخية طويلة. وقبل عرض تقويمه فإنه من الضرورة الإشارة إلى: أين نشأ؟ وهذا ما أعتبره مدخلا تاريخيا، وما أذكره لا شك أنه يدخل في تقويم هـذا الاقتصاد، لأنه يبين الوعاء الذي نشأ فيه، ومنه اكتسب كل عناصره وفيه تحددت ملامحه.

          الاقتصاد المعاصر مقولة أوروبية [1]

          بكل مراحل تاريخه، وبكل أسسه، وبكل عناصره، بل وبتجربته في التطبيق.

          وهذا الذي أقرره يثير قضية معروفة وهي: ألم يكن للأمم الأخرى غير الأوربية نظم اقتصادية، أو إذا كانت هـذه الأمم رأسمالية ، ألم تكن لها مساهمات في الرأسمالية؟.

          هذه القضية لا تقتصر على الاقتصاد وحده، وإنما تعمم على كل فروع المعرفة، فعندما يعرض تاريخ أي فرع من فروع المعرفة، فإن ما يعرض يكون تاريخه في أوربا.

          بالنسبة للاقتصاد وهو موضوعنا فإن تفسير هـذه القضية معروف. إن الذين كتبوا التاريخ الاقتصادي من حيث الفكر، ومن حيث التطبيق، هـم [ ص: 40 ] الأوروبيون، وتاريخ هـذا العلم هـو تاريخ كل فروع المعرفة الاقتصادية ويدخل فيها ما يختص بالاقتصاد. والأوروبيون عندما كتبوا تاريخ هـذا العلم كتبوه من منظور رؤياهم لأحداث التاريخ، ومن منظور مساهمة مفكريهم، ومن منظور تطورهم الاقتصادي. لذلك فإن الأب الاقتصادي كله يحمل هـذه البصمة.

          وأعطى المثل من تاريخ الفكر الاقتصادي لأدلل على هـذا الذي سجلته.

          تاريخ الفكر الاقتصادي الوضعي على النحو الذي يعرفه الاقتصاديون، وعلى النحو الذي يعرف به في كل الجامعات، ومنها جامعاتنا، هـو تاريخ للفكر الاقتصادي للإنسان الأوربي ولا يحمل ـ من قريب أو بعيد ـ أية عناصر أو مساهمات لأمم أخرى غير الأمم الأوروبية، ولإثبات متيقن لذلك أحيل إلى جميع الكتب التي كتبت عن تاريخ " الفكر الاقتصادي " ، سواء باللغة العربية أو بغيرها، من لغات الأرض قاطبة، وسوف نكتشف أن كل هـذه الكتب لا تؤرخ إلا لفكر الرجل الأوروبي.

          وأختار أربعة أمثلة مما تقوله كتب الاقتصاد لأزيد الاقناع بما سجلت:

          المثال الأول: جميع كتب تاريخ الفكر الاقتصادي تجعل بداية هـذا الفكر مع الحضارة الإغريقية القديمة، والأوروبيون هـم الذين بدأوا هـذا التقليد وسار على أثرهم كل من كتب عن تاريخ الفكر الاقتصادي، بلغات أخرى غير اللغات الأوروبية.

          والمعنى الذي أريد أن أقوله من هـذا المثال: هـو أن الأوروبيين لم يروا من الحضارات القديمة إلا الحضارة اليونانية، فجعلوا تاريخ الفكر الاقتصادي يبدأ بها، والأوروبيون ـ من خلال ذلك ـ قد أذاعوا على العالم كله رسالة مضمونها أن الفكر الاقتصادي بدأته حضارة أوروبية.

          المثال الثاني: جميع كتاب تاريخ الفكر الاقتصادي يتفقون على أن هـناك فترات في هـذا التاريخ، ولهذا العلم مدارسه ومفكروه، تكشف مراجعه كل ما قيل عن ذلك بأن تقسيم الفترات حدد على أساس أحداث ومتغيرات أوروبية، كما تكشف المراجعة عن أن تحديد المدارس الاقتصادية وطبيعتها [ ص: 41 ] أسس كله على أساس ما قاله المفكرون الأوروبيون، أو الاقتصاديون الأوروبيون. والرسالة الواضحة التي بثتها أوروبا بواسطة ذلك هـي أنهم قالوا للعالم: إن الفكر الاقتصادي كله بكل مقولاته، وبكل أحداثه، وبكل مفكريه هـو صناعة أوروبية.

          المثال الثالث: ما قال الأوروبيون عن تاريخ الفكر الاقتصادي في الفترة من سنة 500 م إلى 1500 م يعطي دليل إصرارهم على أن غيرهم ليست له مساهمة في الفكر الاقتصادي. إنهم يسمون هـذه الفترة باسم " العصور الوسطى " وهي في نظرهم فترة ظلام وبربرية وهمجية، ويعممون ذلك على الفكر الإنساني، وكذا السلوك الإنساني، أوروبي أو غير أوروبي.

          والأوروبيون في هـذا التعميم يغالطون، فالأوصاف التي وصفت بها الفترة المذكورة صادقة على أوروبا ولكنها ليست كذلك بالنسبة للمسلمين، إذ إن هـذه الفترة هـي التي شهدت الحضارة الإسلامية، وكان لها معطياتها في الاقتصاد، وفي غيره. الأوروبيون أنفسهم يعرفون بعض الريادات الإسلامية لهذه الفترة، مثل ابن خلدون ، ولكن وإن اعترف بعضهم بمساهمته في الاقتصاد إلا أنهم لا يجعلون ذلك على نحو يؤثر في تقسيمهم لفترات تاريخ الفكر الاقتصادي، أي إن مثل هـذه المساهمة شيء هـامشي لا يؤثر في التيار الفكري العام.

          وهكذا، نحن في الفكر الاقتصادي أمام علم، تعكس كل مقولاته التراث الديني والفكري للأوروبيين. وهم قدموا تاريخ هـذا العلم بتقسيماته من منظور رؤياهم لأحداثهم الدينية والفكرية والاجتماعية.

          وقد تكون هـذه الأحداث مشتركة مع غيرهم، لكنهم حيث استندوا إليها، أحالوا إليها من وجهة نظر التفسير الذي أعطوه لها.

          المثال الرابع: ما قاله الأوروبيون عن مراحل الفكر الاقتصادي ومدارسه التي اعتمدوها. إنهم يقسمون هـذا العلم إلى هـذه التصنيفات المرحلية:

          1- الحضارة اليونانية ( 300 ق. م ) .

          2- الامبراطورية الرومانية ( 500 م ) . [ ص: 42 ]

          3- العصور الوسطى ( 500 ـ 1500 م ) .

          4- الرأسمالية التجارية ( 1500 ـ 1800 م ) .

          5- المدرسة الكلاسيكية ( 1776ـ 1820 م ) .

          6- المدرسة الرومانسية والمدرسة التاريخية ( 1820 ـ 1860م ) .

          7- المدرسة الاشتراكية ( 1820 ـ 1880 م ) .

          8- مدرسة الكلاسيك الجدد ( 1870 م ) .

          9- المدرسة الكينزية ( 1836م ) .

          10- اقتصاديات ما بعد الحرب العالمية الثانية.

          هذه هـي المراحل والمدارس التي اعتمدها الأوروبيون في الفكر الاقتصادي. ونلاحظ أنها كلها ـ بلحمتها وسداها ـ تعكس أحداث وفكر الأوروبي.

          وهكذا يثبت ويتأكد أن الاقتصاد (الوضعي) المعاصر بكل جزئياته يمثل تاريخ وفكر الإنسان الأوروبي. وإذا كان ما ذكرت يترجم الاقتصاد الوضعي من حيث الرأسمالية ، فإن الأمر مع الاشتراكية تاريخا وفكرا يسير على المنهج نفسه.

          عندما يثبت ويتأكد أن الاقتصاد الوضعي مقولة أوروبية فإنه يثبت ويتأكد في الوقت نفسه الحق لغير الأوروبيين أن يحاولوا إظهار اقتصادهم تاريخا وفكرا وتفريعا، على هـذا الحق يصبح للمسلمين الحق في إظهار اقتصادهم تاريخيا وفكرا.

          الفرع الثاني: بعض قضايا الأساس بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الوضعي

          الاقتصاد الوضعي له أسسه الفلسفية والاقتصادية التي يبنى عليها، وله فروضه التي يقوم عليها التحليل فيه، وحيث تحكم سلوك وحداته الاقتصادية.

          وعندما يدرس الاقتصاد الوضعي فإنه يكون محكوما بهذه الأسس، سواء [ ص: 43 ] أعلن هـذا، أو لم يعلن. ولا شك أن للاقتصاد الإسلامي أسسه وفروضه، سواء تناقضت كلية مع أسس الاقتصاد الوضعي، أو جاء اتفاق في بعض الجزئيات.

          أحاول فيما يلي التعريف ببعض أسس الاقتصاد الوضعي ليس بقصد بحثها تفصيلا وإنما بقصد أن نعرف الرأي الإسلامي فيها:

          1- الاقتصاد الوضعي مؤسس على أن مصدر المعرفة هـو الإنسان، فهو قادر بإمكانياته الذاتية أن يكتشف القوانين التي تحكم الظواهر، ومنها الظاهرة الاقتصادية، وأنه قادر على هـذا الاكتشاف بعقله، وليس بمساعدة قوى خارجية غيبية، ثم قادر أن يسيطر على الظواهر، ومنها الظاهرة الاقتصادية بواسطة القوانين التي تحكم حركتها.

          مصدر المعرفة على هـذا النحو الذي يؤمن به الاقتصاد الوضعي ليس مقبولا إسلاميا. إن مصدر المعرفة في الاقتصاد الإسلامي فيما هـو محكوم بفقه هـو الله، وفيما دون ذلك فالإنسان يعمل عقله وفق ضوابط شرعية.

          2- في الاقتصاد الوضعي فإن المستهدف هـو اكتشاف القوانين، التي تحكم الظواهر الاقتصادية، بل إن ذلك يعتبر هـو موضوع علم الاقتصاد، في مقابل ذلك فإن الاقتصاد الإسلامي يهتم أولا بتحديد طبيعة وشكل العلاقات بين أفراد وفئات المجتمع كما يهتم باستهداف تحقيق غايات معينة.

          والمقابلة بين الاقتصاد الإسلامي، والاقتصاد الوضعي، تعطي الآتي:

          إن الاقتصاد الإسلامي يبدأ بتحديد الغايات المستهدفة، ويشكل العلاقات، ولا يبدأ باكتشاف القوانين، لأنها في حقيقة الأمر معطاة لما سبق تقريره من غايات وعلاقات.

          3- الاقتصاد الوضعي من حيث محرك الاقتصاد تتنازعه فلسفتان. الفلسفة الفردية، والفلسفة الجماعية، في الفلسفة الفردية باعث الاقتصاد المصلحة الخاصة، ولذلك فإن الحرية الاقتصادية هـي الوعاء الملائم للاقتصاد، وإن أكفأ دور اقتصادي للدولة هـو ألا يكون لها دور. بينما الفلسفة الجماعية تقوم على النقيض من ذلك [ ص: 44 ] في الاقتصاد الإسلامي فإن الفرد أحد أشخاص الاقتصاد، ولذلك فإن المصلحة الخاصة معتبرة، والدولة أيضا أحد الأشخاص، ولذا فإن المصلحة العامة معتبرة اعتبارا مباشرا.

          4- الفكر الوضعي قائم على أن أحسن اسم لعلم الاقتصاد هـو أن ندعوه علم التبادل، ولذلك فإن السوق، هـو ما يبدأ به وينتهى إليه الاقتصاد.

          السوق، وكيف يصل إلى التوازن، وكيف يمكن أن يحدث الاختلال، وما الذي يسببه، وكيف يمكن العودة إلى التوازن. إن هـذا هـو شاغل الفكر الاقتصادي الوضعي.

          في مقابل ذلك، فإنه قد يمكن القول: إن من أحسن ما يسمى به الاقتصاد في الإسلام هـو أن ندعوه علم الإعمار، كيف يحقق الإنسان الإعمار، والإعمار المقبول، وما الذي يعمل عليه، إن هـذا كله هـو شاغل الفكر الاقتصادي الإسلامي.

          الفرع الثالث: أسس الاقتصاد الوضعي ليست مقبولة من الأمم كلها

          تبين مما سبق أن أسس الاقتصاد الوضعي، هـي في حقيقة الأمر معتقدات نبتت في أوروبا، وآمن بها الإنسان الأوروبي، وشكلها وفق مصالحه وغاياته. ولنأخذ الرأسمالية كأحد جناحي الاقتصاد المعاصر. الإنسان الأوروبي في تلاؤم مع الرأسمالية من حيث أسسها، إنه لا يحس بخلخلة فيها، كما لا يحس باضطراب نفسي معها، أما غير الأوروبي فإن الأمر يختلف. ولو قصرنا الكلام على المجتمعات الإسلامية، فإن الفلسفة الرأسمالية دخيلة على هـذه المجتمعات، ومتناقضة مع الفلسفة الإسلامية.

          وهذا يفسر قلق المسلم مع الفلسفة الرأسمالية، ويفسر الاضطراب الواقع في المجتمعات الإسلامية المفروض عليها النظام الرأسمالي.

          أعطي مثالا لواحد من أسس الرأسمالية المعاصرة، لأبين منه رفض المسلم للرأسمالية، وهو أساس مصدر المعرفة، يكتب الإمام عبد الحليم محمود : في فترة من الفترات كانت الكنيسة مسيطرة على العالم الأوروبي سيطرة تامة: ما [ ص: 45 ] كان شيء يفعل، أو شيء ينتهي فيه الأمر، ولا شئ يقام أو يهدم وما كان إنسان يقدم على أمر، وما كان إنسان يحجم عن أمر، إلا باستئذان الكنيسة، وباستئذان رجال الدين، ولكن الكنيسة ورجال الدين تعسفوا في استعمال سلطتهم حتى لقد أنشأوا محاكم التفتيش. وقد كتب الأوروبيون والمسيحيون عن محاكم التفتيش كثيرا، وصوروها في أبشع مظاهرها، وفي أسوأ صورها، كتب الكاثوليك، وكتب البروتستانت، وكتب الفرنسيون وكتب الإنجليز كتب كل هـؤلاء ـ وهم رجال المسيحية ـ فيما يتعلق بهذا الأمر. ولقد وضحوا وبينوا أن الكبت الذي كان يغمر أوروبا في ذلك العصر ولد الانفجار، واتخذ الانفجار اتجاها معينا، اتخذ الاتجاه الإنساني وأخذ قادة الحضارة يتحدثون عن الإنسان، بما يوحي بانفصال الإنسانية عن الألوهية، أو انفصال الإنسانية عن الكنيسة، أو انفصال الإنسان عن الدين، أو بالتعبير الحديث انفصال الدين عن الدولة، فالإنسان له عقله، له منطقه ويجب أن يسير بهذا العقل، وبهذا التفكير وبهذا المنطق [2]

          هذا هـو التفسير لجعل مصدر المعرفة الاقتصادية في الرأسمالية هـو الإنسان وإبعاد الدين كلية عن ذلك، وهذا الأساس على هـذا النحو أوروبي بحت.

          وهذا الأساس على هـذا النحو من حيث موضوعه في تناقض مع الإسلام، ثم هـذا الأساس من حيث جذوره التاريخية، هـو غريب على المجتمعات الإسلامية.

          وما قيل عن هـذا الأساس يقال عن الأسس الأخرى للرأسمالية.

          لهذا أقرر بأن الرأسمالية من حيث أسسها العقيدية والفلسفية والأخلاقية ليست صالحة لأن تحكم الأمم كلها، وعلى الأخص أمتنا الإسلامية، وما قيل عن الرأسمالية يقال عن الاشتراكية. [ ص: 46 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية