الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          في الاقتصاد الإسلامي (المرتكزات - التوزيع - الاستثمار - النظام المالي)

          الدكتور / رفعت السيد العوضي

          المبحث السادس من أخلاق النظام المالي الإسلامي

          الكلام عن ( أخلاق ) النظام المالي، يعتبره الاقتصاديون خروجا على اللحن الاقتصادي، ذلك أن علم الاقتصاد الوضعي تقرر فصله عن الأخلاق منذ القرن التاسع عشر، بل يعتبر الاقتصاديون أن هـذا الفصل هـو الذي قاد إلى تأسيس " علم " الاقتصاد، بعد أن كانت المعالجات الاقتصادية مجرد أفكار مبعثرة في علوم أخرى. ويعتقد الاقتصاديون أن لهم منطقهم فيما يقولون، إنهم يعتقدون أنهم حيث فصلوا علم الاقتصاد عن الأخلاق، فإنهم نقلوا البحث الاقتصادي من اعتبار المعايير الشخصية إلى اعتبار المعايير الموضوعية، وأنهم أحلوا قوى السوق التي هـي في نظرهم قوى موضوعية، محل معيار العدل، على سبيل المثال الذي هـو حكم قيمي وشخصي. ويعتقد الاقتصاديون أيضا أن علم الاقتصاد بقدر ما يكون فيه من موضوعية فإنه يتقدم، وتزول عنه صفة العلم بقدر اعتباره للمعايير الشخصية.

          يفارق الاقتصاد الإسلامي علم الاقتصاد من هـذا المنظور مفارقة كلية. إن البحث يثبت أن الاقتصاد الإسلامي يعتبر النوعين من الاعتبارات: المعايير الموضوعية، والمعايير الشخصية، التي تعكس العنصر الأخلاقي، وهذا النوع الأخير هـو ما أقترح تسميته أخلاق النظام المالي الإسلامي، وندرسه تحت مصطلح المعايير الأخلاقية، بدلا من مصطلح المعايير الشخصية.

          ونظرا لدقة دراسة ما يتعلق بالأخلاق في الاقتصاد، فإن الأمر يحتاج معالجة خاصة، إنه يحتاج إلى إثبات ذي طبيعة خاصة، وقد يكون البعد التاريخي الذي نأخذه من التراث الإسلامي من أقوى الإثباتات وأفضلها في هـذا الصدد، ذلك أن هـذا البعد يمكن أن يكشف لنا الطبيعة التي فهم بها المسلمون الأوائل قضايا الاقتصاد، وصلتها بالأخلاق. [ ص: 147 ]

          لهذا أقترح أن ندرس هـذا العنصر الأخلاقي في النظام المالي الإسلامي بالإحالة إلى كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف (1 ) ، واختيار هـذا الكتاب تحدد انطلاقا من الأسباب الآتية:

          1- إن كتاب الخراج لأبي يوسف يدخل كله في النظام المالي الإسلامي، ولهذا فاختياره للإحالة إليه ونحن بصدد تحديد عناصر أخلاقية في النظام المالي الإسلامي يكون مقبولا.

          2- هـذا الكتاب كتبه أبو يوسف بناء على طلب هـارون الرشيد الخليفة العباسي، وقد أثبت ذلك أبو يوسف في مقدمة كتابه بقوله: إن أمير المؤمنين أيده الله تعالى، سألني أن أضع له كتابا خاصا يعمل به في جباية الخراج والعشور والجوالي، وغير ذلك مما يجب النظر فيه والعمل به، وإنما أراد بذلك رفع الظلم عن رعيته، والصلاح لأمرهم، وفق الله تعالى أمير المؤمنين، وسدده وأعانه على ما تولى من ذلك، وسلمه مما يخاف ويحذر، وطلب أن أبين له ما سألني عنه مما يريد العمل به، وأفسره وأشرحه، وقد فسرت ذلك وشرحته (ص 3 ) .

          وكون هـذا الكتاب لهذا الغرض، فإنه يعني أن ما به كان للتطبيق العملي، ولم يكن بحثا نظريا، ولذلك أهميته في الموضوع الذي نبحثه، فهو يعني أن أمور الأخلاق التي جاءت بهذا الكتاب خوطب بها ولي الأمر ليعملها في التطبيق مع غيرها، مما تضمنه الكتاب مما يتعلق بالإيرادات والنفقات وغير ذلك.

          3- يتأكد هـذا المعنى أكثر، كما يتقوى اختيارنا لهذا الكتاب، من أن النظر فيه يبين أنه وضع ليحدد وليعطي البرنامج المالي للدولة الإسلامية، ويظهر هـذا بوضوح من الطريقة التي عرض بها مصنفه: إيرادات ونفقات النظام المالي الإسلامي، ونلحظ بجانب ذلك شيئا آخر على درجة معينة من الأهمية. ركز أبو يوسف في كتابه على أن يبرز بوضوح أخلاقيات سلوك أطراف النظام المالي [ ص: 148 ] الإسلامي، لقد أسهب بتركيز في بيان الأخلاق التي يلتزم بها ولي الأمر، باعتباره قائما على تطبيق النظام المالي الإسلامي، كما فصل بتأكيد القواعد السلوكية، التي تقع على العمال، الذين يعملون في النظام المالي الإسلامي، وأبان أيضا بوضوح السلوك الأخلاقي، الذي ينبغي أن يتحلى به أفراد المجتمع الإسلامي، الذين هـم محل تطبيق هـذا النظام. ويذهب أبو يوسف دائما وبتكرار إلى تاريخ العصر النبوي وعصر الخلفاء الراشدين، يعطي منهم المثل تلو المثل مستشهدا به على ما يقرر من قواعد سلوكية أخلاقية، لهذه الأطراف الثلاثة.

          هذا هـو المنهج الذي نقترحه لبحث هـذا العنصر في النظام المالي الإسلامي، وهذا هـو الكتاب الذي نقترح الإحالة إليه.

          والعناصر الأخلاقية التي يتضمنها كتاب الخراج لأبي يوسف كثيرة وأحاول تجميع ما أستطيعه منها وتبويبه في الآتي:

          أولا: المال، طيب المورد وعدل الإنفاق

          حرص القاضي أبو يوسف أن يبرز لهارون الرشيد وهو يكتب له عن النظام المالي الإسلامي باعتباره ولي الأمر، حرص أن يبرز له تشريع الإسلام بأن يكون المال الذي يجنى طيبا، ويعني بذلك أن يكون أساس الإلزام أساسا شرعيا صحيحا، وهذا هـو عمل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعمل الخلفاء الراشدين من بعده ؛ فهذا هـو عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما يصل إليه مال العراق يخرج إليه عشرة من أهل الكوفة، وعشرة من أهل البصرة، يشهدون أربع شهادات بالله أنه من طيب، ما فيه ظلم مسلم ولا معاهد ( ص 124 ) .

          هذه أول القيم الأخلاقية التي تخضع لها الإيرادات. نقل أبو يوسف قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " والله الذي لا إله إلا هـو ما أحد إلا وله في هـذا المال حق، أعطيه أو منعه، وما أحد أحق به من أحد " . ( ص 50 ) . [ ص: 149 ]

          والمصطلح الذي استخدمه أبو يوسف هـو " الحق " ويعني ذلك أن الأمر في النظام المالي الإسلامي هـو أمر حق يجب أن يتمسك به صاحب الحق.

          أما القيمة الثالثة فهي تؤصل للمساواة أو عدم المساواة عند الإنفاق؛ يذكر أبو يوسف عن ذلك بأن أبا بكر رضي الله عنه كان يقسم بالسوية، وقال عبارته المشهورة: هـذا معاش فالأسوة فيه خير من الأثرة. ثم جاء عمر فرأى الأخذ بالتفاوت في العطاء.

          ( ص 45 ـ 46 ) . يوجد معنى اقتصادي يجمع كلا من فعل أبي بكر، وفعل عمر على الرغم مما يبدو بينهما من اختلاف هـذا المعنى هـو أنه لو كانت الأوضاع الاقتصادية تلزم بالمساواة في العطاء، وذلك عندما يكون مستوى المعيشة منخفضا بحيث لا يوجد فائض يسمح بالتفاوت فإن المعتبر إسلاميا هـو المساواة في العطاء، وهذه هـي حالة عهد أبى بكر رضي الله عنه ، أما حين تسمح الأوضاع الاقتصادية بتفاوت الدخول، فإن الإسلام يجيز التفاوت في العطاء وهذا ما فعله عمر رضي الله عنه ، أما " قول عمر: لا أجعل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم كمن قاتل معه. " وفاوت في العطاء على هـذا الأساس، فإن هـذه معايير تعمل حين توجد الوفرة التي تسمح بالتفاوت، أما إذا لم تكن هـناك وفرة فلا إعمال لهذه المعايير، وهذا هـو ما فعله عمر نفسه في عام المجاعة، وهي الحالة التي اختفت فيه الوفرة.

          هذه هـي القيم الثلاث التي أعتبر أنها معا تشكل الأساس الأول في أخلاق النظام المالي الإسلامي، وهو ما أسميه: طيب المورد وعدل الإنفاق.

          ثانيا: صفات من يتولى أمر إيرادات الدولة

          ليس كل شخص صالحا لأن يتولى أمر إيرادات المالية الإسلامية. الإسلام ينظر إلى هـذا الأمر نظرة غاية في الدقة، ويظهر ذلك من الشروط التي يشترطها فيمن يقوم بذلك، ومن الرقابة التي يخضعه لها. وقد حرص أبو يوسف أن يقول ذلك لهارون الرشيد فيما قاله عن النظام المالي الإسلامي:

          1- قال له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستعمل أقاربه في تحصيل الإيرادات، أي لم يعينهم في ذلك ( ص 123 ) . وقد كانوا أهل فقه وأهل كفاية. وهذه خطوة أولى من خطوات بدايات إصلاح النظام المالي في عصرنا الحاضر. [ ص: 150 ]

          2- قال أبو يوسف لهارون الرشيد عن الشروط التي يجب أن تتوفر فيمن يتولى أمرا في النظام المالي الإسلامي: أن يكون فقهيا، عالما، مشاورا لأهل الرأي، عفيفا، لا يطلع الناس منه على عورة، ولا يخاف في الله لومة لائم، ما حفظ من حق وأدى من أمانة احتسب به الجنة، وما عمل من غير ذلك خاف من جور في حكم إن حكم ثم يذيل أبو يوسف هـذه الشروط بقوله: فإنك إنما توليه جباية الأموال وأخذها من حلها، وتجنب ما حرم منها، يرفع من ذلك ما يشاء ويحتجز منه ما يشاء، فإذا لم يكن عدلا، ثقة، أمينا فلا يؤمن على الأموال ثم يضيف مجموعة جديدة من الشروط: أن لا يكون عسوفا لأهل عمله. ولا محتقرا لهم، ولا مستخفا لهم، اللين للمسلم، والغلظة على الفاجر، والعدل على أهل الذمة، وإنصاف المظلوم، والعفو عن الناس، وأن تكون جبايته للخراج كما يرسم له، وترك الابتداع فيما يعاملهم به، والمساواة بينهم في مجلسه، ووجهه، حتى يكون القريب والبعيد، والشريف والوضيع عنده في الحق سواء، وترك إتباع الهوى فإن الله ميز من اتقاه وآثر طاعته وأمره على من سواهما (ص 115 ـ 116 ) .

          3- ثم قال أبو يوسف: إن عمال الجباية يجب أن يخضعوا للرقابة، وقد جعل هـذه الرقابة على درجات متعددة. قال لهارون الرشيد: أرى أن تبعث قوما من أهل الصلاح والعفاف، ممن يوثق بدينه وأمانته، يسألون عن سيرة العمال، وما عملوا في البلاد، وكيف جبوا الخراج على ما أمروا به وعلى ما وظف على أهل الخراج واستقر ( ص 120 ) وهذه رقابة عليهم في أعمالهم، كما أن هـناك رقابة عليهم في أموالهم وتضخم ثرواتهم.

          تجمل لنا هـذه العناصر الثلاثة معا الشروط فيمن يتولى أمر الأموال في النظام المالي الإسلامي، وفيها شروط الخبرة والكفاية والمعرفة، وهي التي تتعلق بها النظم المالية الوضعية، ولكن في النظام الإسلامي شروطا أخرى، منها الصلاح والتقوى إلى آخر ما ذكرناه من شروط. [ ص: 151 ]

          ثالثـا: مـراعـاة الطـاقـة عـند فـرض الإلـزام المـالي

          تتحقق هـذه القيمة في النظام المالي الإسلامي بمجموعة من العناصر:

          1- إن المنهج الإسلام في الإلزام المالي يأخذ بفكرة النصاب.

          وهي تعني أن الإلزام المالي لا يجيء إلا إذا كان المال الواقع عليه الإلتزام قد بلغ حدا معينا. ويترتب على ذلك أن الإلزام المالي في الإسلام يجيء مع الطاقة، بل إن المعدل الذي يفرض به الإلزام يختلف حسب طبيعة التكلفة اللازمة لإنتاج المال الخاضع لهذا الإلزام.

          2- الأساس في الالتزام المالي الطاقة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه. ) وهذا ما التزم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، إذ كان يسأل من يفرض عليهم الخراج: أيطيقون ما فرض عليهم أم لا؟

          ( ص 92 ) وهذه شورى في فرض الالتزامات المالية غير مسبوقة ولا نعتقد أنها غير مبتوعة، ويكتب عمر بن عبد العزيز إلى أحد عماله أن يراعي الطاقة عند فرض الإلزام المالي (ص 93 ) .

          3- يكتب أبو يوسف لهارون الرشيد: لو تقربت إلى الله يا أمير المؤمنين بالجلوس لمظالم رعيتك في الشهر أو الشهرين مجلسا واحدا، تسمع فيه من المظلوم وتنكر على الظالم ويسير ذلك في الأمصار والمدن، فيخاف الظالم وقوفك على ظلمه، فلا يجترئ على الظلم، ويأمل الضعيف المقهور جلوسك، ونظرك في أمره، فيقوى قبله ويكثر دعاؤه. (ص 121 ) . هـذا الذي طلبه أبو يوسف من ولي الأمر فيه مراجعة ومراقبة لسلوك الذين يتولون تحصيل الإيرادات.

          4- إعمالا لما سبق، فإن للإمام أن ينقص ويزيد فيما يوظفه من الخراج على أهل الأرض، على قدر ما يحتملون، وأن يصير على كل أرض ما شاء بعد أن لا يجحف ذلك بأهلها (ص 92 ) .

          رابعا: آداب تحصيل الإيرادات

          تتحقق آداب تحصيل الإيرادات في المنهج الإسلامي بإتباع مجموعة من القيم السلوكية: [ ص: 152 ]

          1- منع التفتيش للجباية. وهذا ما نقله إبراهيم بن المهاجر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " أمرني ألا أفتش أحدا " ( ص 130 ) .

          2- منع الالتزام وهو الأسلوب الذي شاع في العصور المتأخرة، ويعبر عن الالتزام بمصطلح التقبيل. " ورأيت أن لا تقبل شيئا من السواد ولا غير السواد من البلاد، فإن المتقبل إذا كان في قبالته فضل عن الخراج، عسف أهل الخراج وحمل عليهم، ما لا يجب عليهم وظلمهم وأخذهم بما يجحف بهم، ليسلم مما يدخل فيه، وفي ذلك وأمثاله خراب البلاد وهلاك الرعية، والمتقبل لا يبالي بهلاكهم بصلاح أمره في قبالته، ولعله أن يستغفل بعد ما يتقبل به فضلا كثيرا، وليس يمكنه ذلك إلا بشدة منه على الرعية، وإنما أمر الله عز وجل أن يؤخذ منهم العفو وليس يحل أن يكلفوا فوق طاقتهم " (ص 114 ) . وكأن القاضي أبا يوسف رحمه الله رأى بالفقه الذي أعطاه الله له ما سوف يحل بالعالم الإسلامي من خراب عند تطبيق أسلوب الالتزام، في تحصيل الإيرادات.

          3- حرص أبو يوسف أن يكتب لهارون الرشيد عن العلاقة التي يجب أن تكون بين متولى أمر تحصيل الإيرادات وبين من ولي عليهم. وكذلك الصفات السلوكية التي يجب أن تكون بين متولي أمر تحصيل الإيرادات، وبين من ولي عليهم، وكذلك الصفات السلوكية التي يجب أن يلتزم بها. وكان عمر يشترط فيمن يستعمله أن لا يركب برزونا، ولا يلبس رقيقا، ولا يأكل نقيا، ولا يغلق بابا دون حوائج الناس، ولا يتخذ حاجبا (ص 125 ـ 6 ) . وكان رضي الله عنه ، إذا بلغه أن عاملا لا يعود المريض، ولا يدخل عليه الضعيف، نزعه ( ص 126 ) ؟

          ما ذكرته في هـذا المبحث هـو بعض عناصر أخلاقية في النظام المالي الإسلامي.

          وقد حرصت أن أربط ما قلته بواحد من الكتب المعتبرة في النظام المالي الإسلامي، وهو كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف. [ ص: 153 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية