الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          في الاقتصاد الإسلامي (المرتكزات - التوزيع - الاستثمار - النظام المالي)

          الدكتور / رفعت السيد العوضي

          المبحث الثاني

          الثبات والتطور وطبيعتهما في علم الفقه

          وعلم الاقتصاد الإسلامي وعلم الاقتصاد (الوضعي)

          على الرغم من أهمية موضوع ما هـو ثابت وما هـو متطور في الاقتصاد الإسلامي إلا أنه لم يصبح بحثا واسعا بحيث يتفق على نوع وطبيعة التطور الممكن قبوله في هـذا الاقتصاد.

          ولقد قدمت في الصفحات السابقة بعض الأفكار التي تتصل بموضوع علم الاقتصاد، وبناء على ما قلته أحاول إعطاء فكرة عن الثبات والتطور في هـذا الاقتصاد.

          الفرع الأول: الثبات والتطور في علم الفقه وعلم الاقتصاد الإسلامي

          أولا: أعتقد أن في الاقتصاد الإسلامي ما له خاصية الثبات. وهو ما أسميه اقتصاديات الفقه المالي والاقتصادي، فالفقه المنظم لذلك ثابت، فيكون اقتصاده أيضا ثابتا. وإذا كنت أقول: إن الفقه لذلك ثابت فإن هـذا لا يعني أن الفقه لا يسع ما يستجد، وما يتطور، وإنما الفقه ثابت في أحكامه لما عرف من معاملات، أما ما يستجد أو يتطور فستكون له أحكامه التي ستدخل أيضا في هـذا الجزء الثابت. ثم إذا كنت أقول أيضا: إن اقتصاد الفقه المالي والاقتصادي ثابت فإنني بهذا لا أصادر إمكانية أن توجد تصورات متعددة لهذا العنصر من الاقتصاد الإسلامي، وإنما هـذه الإمكانية لا يعد وجودها من قبيل التطور، وإنما هـو من قبيل تعدد الآراء في نوع الاقتصاد، الذي يترتب على الفقه المالي والاقتصادي.

          أذكر بعض الأمثلة التي توضح وتثبت ما قلته. [ ص: 30 ]

          1- أعطي مثالا من التراث الإسلامي، أحاول به أن أوضح وأثبت هـذا المعنى الذي تقدم. من الكتب التي تصنف ضمن كتب التراث في الاقتصاد الإسلامي ، كتاب " الاكتساب في الرزق المستطاب " للإمام الشيباني [1]

          وكتاب " البركة في فضل السعي والحركة " [2]

          للقاضي عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عمر. يعالج الكتابان موضوعات كثيرة متشابهة مما تدخل في الاقتصاد الإسلامي، وبالرغم من التباعد الزمني بين تأليف الكتابين، حوالي ستة قرون، إلا أننا نجد تطابقا في الحكم. وجاء هـذا التطابق بالرغم من اختلاف باعث الكتابة لكل من الكتابين؛ فللشيباني كتب مؤلفه للرد على الحركة التي تسللت إلى المجتمعات الإسلامية، وإلى الفكر الإسلامي ممثلة جماعة المانوية

          [3] ، بينما كتب القاضي ابن عبد الرحمن مؤلفه لتسلية قومه، لأنه رآهم في الكد مجتهدين وعلى الحرف معتمدين. وهذا التطابق هـو ما أشير إليه بثبات الفكرة، أو المعلومة الاقتصادية المبنية على الأحكام الفقهية.

          2- ومثال آخر على هـذا الجزء الثابت في الاقتصاد الإسلامي نأخذه من [ ص: 31 ] تحريم الربا. إن تحريم الربا له معطيات اقتصادية كثيرة، ومنها أثر ذلك على العرض النقدي في المجتمع. ما نستنتجه اقتصاديا عن أثر تحريم الربا على العرض النقدي في المجتمع له خاصية الثبات، وحتى بفرض وجود اختلاف بين الذين يكتبون في الاقتصاد الإسلامي حول طبيعة ودرجة تأثير تحريم الربا على العرض النقدي إلا أنه يتفق على أن له أثرا، وهذا الجزء المتفق عليه هـو ما اعتبره ثابتا في الاقتصاد الإسلامي.

          3- ومثال ثالث على هـذا الجزء الثابت في الاقتصاد الإسلامي نأخذه من أثر الزكاة على شكل وطبيعة ووظائف الميزانية في الدولة الإسلامية. إن إعداد ميزانية للدولة الإسلامية مع الأخذ في الاعتبار الزكاة، والزكاة بطبيعتها إيراد مالي مخصص في التحصيل، وفي الإنفاق، مثل ذلك يجعل التنظير الاقتصادي للميزانية، تبويبا وطبيعة ووظيفة، يختلف عن تنظير لميزانية ليست فيها الزكاة، وهذا الأثر الاقتصادي للزكاة على الميزانية هـو مما يدخل في الجزء الثابت من الاقتصاد الإسلامي.

          4- ومثال رابع على هـذا الجزء الثابت في الاقتصاد الإسلامي نأخذه من نظرية تخصيص الموارد. إن وجود الملكية العامة في الأرض الزراعية وفي المناجم في الإسلام على سبيل المثال، وربط هـذا النوع من الملكية بوظائف معينة وبأشكال معينة للاستغلال، كل هـذا يحدد أبعادا معينة تجعل نظرية تخصيص الموارد في ظل اقتصاد إسلامي تتميز عن مثيلتها في اقتصاد آخر، لا يأخذ بما يأخذه الإسلام من أنواع الملكية التي ذكرتها. وهذا الجزء من الاقتصاد له خاصية الثبات، حتى وإن تنوعت الآراء حول طبيعة هـذا الجزء ذلك أن التنوع لا يصل إلى حد عدم اعتبار هـذا الأثر.

          5- ومثال خامس عن الميكانيكية الكلية التي يعمل بها الاقتصاد الإسلامي. إن ما يتفق عليه أن الدولة لها دور في الاقتصاد الإسلامي، وفي هـذا الجزء يختلف الاقتصاد الإسلامي عن الاقتصاد الرأسمالي ، ويتفق أيضا في الاقتصاد الإسلامي على أن الفرد يأخذ قرارات اقتصادية، وفي هـذا الجزء يختلف الاقتصاد الإسلامي عن الاقتصاد الاشتراكي . لهذا فان [ ص: 32 ] الميكانيكية الكلية التي يعمل بها الاقتصاد الإسلامي تنظر على فروض وجود دور للفرد ودور للدولة. وهذا الجزء من الاقتصاد الإسلامي له خاصية الثبات، حتى وإن تنوعت الآراء حوله. لأن تنوع الآراء لا يصل إلى حد وجود رأي يقول: إن الميكانيكية التي يعمل بها الاقتصاد الإسلامي تقوم على فرض أن القرار الاقتصادي يأخذه الأفراد وحدهم، أو تأخذه الدولة وحدها.

          ثانيا: أعتقد أيضا أن في الاقتصاد الإسلامي عنصرا له خاصية التطور، وموضوع هـذا العنصر فيه عناصر فرعية متعددة.

          1- ففيه ما يتعلق بالميكانيكية التي يمكن أن يعمل بها اقتصاد يسير وفق المنهج الإسلامي، وهذه الميكانيكية تخضع أيضا لطبيعة الاقتصاد، أي طبيعة تطوره في التطبيق. وما دامت هـذه الميكانيكية على هـذا النحو فإنها تكون متطورة، ويمكن أن تختلف من شخص لآخر حسب فهمه ومعارفه الاقتصادية، وحسب الوعاء الاقتصادي الذي يتعامل معه.

          2- ويدخل في هـذا العنصر أيضا كل ما يتعلق بالمؤسسات والمرافق التي يمكن أن توجد في إطار اقتصاد يسير وفق المنهج الإسلامي. ذلك أن المؤسسات، والمرافق التي تقبل في اقتصاد ما تتوقف على الهيكل الاقتصادي وطبيعته بقدر ما تتوقف على الأصول النظرية للفكر الاقتصادي. وما دام أمر المؤسسات على هـذا النحو، فإن ما يوجد منها ليخدم الاقتصاد الإسلامي يخضع للتطور الهيكلي لاقتصاد يسير وفق المنهج الإسلامي. أي أن هـذا العنصر في الاقتصاد الإسلامي يكون متطورا.

          3- ويدخل في هـذا العنصر المتطور القوانين التي تفسر الظواهر والمتغيرات الاقتصادية التي يمكن أن نكشفها من عمل اقتصاد يسير وفق المنهج الإسلامي. ذلك أن كل اقتصاد توجد فيه علاقات بين ظواهره ومتغيراته الاقتصادية.

          ونستطيع من خلال البحث أن نكشف طبيعة العلاقات الموجودة في [ ص: 33 ] الاقتصاد. وبعد التعرف عليه واكتشافها نصوغها في قوانين أو غير ذلك من أساليب الصياغة. ومما لا شك فيه أن العلاقات التي توجد في أي اقتصاد تكون متطورة بحسب تطور الهياكل الأساسية لهذا الاقتصاد.

          وينطبق هـذا على الاقتصاد الإسلامي كما ينطبق على غيره من الاقتصاديات، إلا أن هـنا ما يلزم التحفظ عليه. ذلك أن طبيعة تطور الظواهر والمتغيرات الاقتصادية في الاقتصاد الإسلامي تكون محكومة بأصول وأسس الاقتصاد الإسلامي. لهذا فإن طبيعة تطور الظواهر والمتغيرات الاقتصادية في مجتمع يسير وفق المنهج الإسلامي تختلف عن نظيرتها في الاقتصاديات الأخرى.

          4- ويدخل في هـذا العنصر المتطور في الاقتصاد الإسلامي إمكانية أن تعمل فيه أدوات التحليل، التي تفسر وتشرح المعلومة الاقتصادية. إن أي تطور في أدوات التحليل، يقبل استخدامه في شرح المعلومات الاقتصادية الإسلامية. ويعني هـذا أننا نستخدم في الاقتصاد الإسلامي ما هـو معروف من أدوات التحليل، وما يستجد منها، أي ما يقود إليه التطور المعرفي. وهكذا يكون هـذا العنصر المعرفي التحليلي في الاقتصاد الإسلامي له طبيعة متطورة.

          أحاول فيما يلي، أن أعطي بعض الأمثلة، التي تشرح هـذا العنصر المتطور في الاقتصاد الإسلامي.

          المثال الأول: نأخذ تحريم الربا، وإباحة المشاركة، ونحاول التعرف على واحد أو أكثر من العناصر المتطورة، مقارنا بالعنصر الثابت. يستتبع تحريم الربا وإباحة المشاركة خصائص اقتصادية معينة، وذلك مثل الأثر على العرض النقدي، والأثر على الاستثمار كميا وكيفيا، وأعتبر هـذا العنصر مما يدخل في العنصر الثابت في الاقتصاد الإسلامي. وبجانب هـذا العنصر الثابت فإن في اقتصاديات تحريم الربا وإباحة المشاركة عناصر متطورة، ومن هـذه العناصر المؤسسات التي يمكن أن توجد في اقتصاد غير ربوي. وقديما اقتصرت هـذه المؤسسات على أشكال محددة للشركات، أما حديثا [ ص: 34 ] فإن هـذه المؤسسات يمكن أن تكون في صور كثيرة ومنها المصارف. مثل هـذه الخاصية في الاقتصاد الإسلامي المتعلقة بتطور المؤسسات، التي يمكن أن تعمل فيه، هـي ما يدخل في العناصر المتطورة. وأيضا فإن للاقتصاد غير الربوي ميكانيكية اقتصادية تختلف عن الميكانيكية التي يعمل بها الاقتصاد الربوي. وهذا عنصر آخر من العناصر المتطورة.

          المثال الثاني: تحديد الثمن في الاقتصاد الإسلامي يتضمن أيضا ما هـو ثابت وما هـو متطور. إن فقه هـذا الموضوع يتأسس على أن الأصل هـو حرية تحديد الثمن، ثم ذكر الفقهاء حالات محددة أوجبوا فيها تدخل الدولة في الثمن. إن العنصر الاقتصادي الثابت في هـذا الموضوع يتمثل في أن الثمن يعمل عليه كل من قوى السوق وقرارات الدولة. يجيء بعد هـذا العنصر الثابت عناصر متطورة. ومن هـذه العناصر المتطورة كيفية تدخل الدولة في العمل على الثمن، والأساليب التي تتبعها، والمؤسسات التي تؤدي هـذه الوظيفة وأيضا منها اكتشاف الميكانيكية التي يعمل بها سوق السلع، والخدمات، في ظل حرية السوق ودور الدولة التدخلي.

          الفرع الثاني: طبيعة التطور التاريخي بين علم الاقتصاد الإسلامي وعلم الاقتصاد الوضعي

          كان موضوع الفرع السابق هـو البحث في الثبات والتطور في الاقتصاد الإسلامي. وترتيبا على ما قلته عن هـذا الموضوع، أحاول تحديد طبيعة التطور في هـذا الاقتصاد.

          أولا: نعرف التطور وطبيعته في الفكر الاقتصادي الوضعي، وهو تطور تضمن ارتقاء تدريجيا في الأفكار وفي المنهج، بل تضمن أيضا ارتقاء من نوع إلغاء أفكار لم تعد ملائمة، أو لم تعد صحيحة، وإحلال أفكار أخرى اعتقد في صحتها، أو ملاءمتها للواقع، وهذا الإلغاء والإحلال هـو السمة المميزة للتطور، وطبيعته في الفكر الاقتصادي الوضعي.

          وظهور مدارس متعددة في الاقتصاد الوضعي يعتبر الترجمة العملية لهذا الإلغاء والإحلال. ونستطيع أن نستنتج الآتي: إن التطور وطبيعته في [ ص: 35 ] الاقتصاد الوضعي هـو تطور إلغائي إحلالي ارتقائي، ونقول أيضا: إنه ليس هـناك ما هـو ثابت في الاقتصاد الوضعي.

          ثانيا: بناء على ما قدمته في الفرع السابق أستطيع أن أقول: إن التطور وطبيعته في الاقتصاد الإسلامي يختلف جذريا عن نظيره في الاقتصاد الوضعي. ذلك أنه وكما رأينا، فإن في الاقتصاد الإسلامي ما هـو ثابت، ثم فيه ما هـو متطور. والاقتصاد الإسلامي يتميز عن الاقتصاد الوضعي بهذا العنصر الثابت. بل إن العنصر المتطور في الاقتصاد الإسلامي له طبيعة تطورية تجعله مختلفا عن الطبية التطورية في الاقتصاد الوضعي. إن العنصر المتطور في الاقتصاد الإسلامي محكوم ومربوط بالثوابت في هـذا الاقتصاد، بينما الاقتصاد الوضعي ليس فيه ثوابت تحكم التطور.

          ثالثا: في حقيقة الأمر، إن البحث في قضية التطور والثبات في الاقتصاد ليست منفصلة عن البحث في مصدر المعرفة في الاقتصاد.

          فالفكر الاقتصادي عندما انفصل عن عنصر الوحى في التعرف على المعلومة الاقتصادية، وجعل الإنسان هـو مصدر المعرفة كلها فإن ذلك قاده إلى أنه لم يصبح هـناك ما هـو ثابت في هـذا الاقتصاد بسبب أن الإنسان أصبح مصدر المعرفة. والإنسان متطور في معرفته ليس بسبب المكتسبات المعرفية الجديدة التي يحصل عليها، لكن أيضا بسبب قصوره ومحدوديته في الإدراك.

          أما في الاقتصاد الإسلامي، فإن مصدر المعرفة في الجزء الثابت هـو التشريع، لذلك فإن البحث في الاقتصاد الإسلامي من حيث هـذا الجزء محكوم بذلك.

          وفيما يتعلق بالجزء المتطور من هـذا الاقتصاد فكما ذكرت فإن التطور هـنا محكوم بالثوابت، لذلك لا يصح أن يقال عن الجزء المتطور إنه يخضع كله للإنسان، إذ ليس الإنسان هـو مصدر المعرفة باستقلال، وإنما دوره هـو أن يعمل عقله في الظاهرة الاقتصادية محكوما بالثوابت من الوحي، لذلك اقترح أن نسمي منهج البحث في هـذا الجزء المتطور من الاقتصاد الإسلامي باسم المنهج الوضعي المغاير. فهو وضعي لأن الإنسان [ ص: 36 ] أعمل عقله على هـذا النوع من المعرفة، ولكنه وهو يعمل عقله محكوم بالتشريع الذي يحدد له ما هـو أكثر من القواعد الأخلاقية في هـذه المعرفة الاقتصادية، ولذلك يكون مغايرا. يكون الاقتصاد الإسلامي بهذا فيه منهجان للبحث يعمل كل واحد منها على عنصر من عناصره، فالمنهج المعياري يعمل في العنصر الثابت، والمنهج الوضعي المغاير يعمل على الجزء المتطور.

          رابعا: أرى أن هـذا المنهج على هـذا النحو له إسقاطاته على الاقتصاد الإسلامي تميزه عن الاقتصاد الوضعي، وأحاول فيما يلي أن أعطي أمثلة لهذه الإسقاطات.

          1- إن الجزء الثابت في الاقتصاد الإسلامي ليس موضوعا للتطور، وقد ذكرت بعض المعلومات عن هـذا الجزء عندما بحثت العنصر الثابت في الاقتصاد الإسلامي. ومما ينبغي ذكره أن الفقه المالي والاقتصادي يسع المعاملات المستجدة، والمتطورة في الاقتصاد، كما ثبت ذلك. والثبات هـو عندما نعرف الحكم فيها.

          وهذا الذي قررته عن هـذا الجزء الثابت في الاقتصاد الإسلامي له أهميته. ذلك أننا نرى بعض الأبحاث في الاقتصاد الإسلامي تحاول أن تعمل التطور في هـذا الثابت. وهذا خطأ قاد إلى نتائج مخطئة. ومن أمثلة هـذه الأبحاث ما قيل عن بعض المعاملات المحرمة بقصد إخراج صور منها من الحرمة، وإدخالها في الحلية، على سبيل المثال يدخل في هـذا بعض أو كثير مما قيل عن تعويض التغير في قيمة النقود. والذين فعلوا ذلك أخطئوا، ذلك أنهم أعملوا التطور فيما هـو ليس قابلا أو موضوعا للتطور.

          2- الاقتصاد الإسلامي، بوجود هـذين العنصرين فيه، وهما الثابت والمتطور، يملك خاصية تميزه عن اقتصاد يكون كل ما فيه متطورا. ذلك أن العنصر الثابت هـو بمثابة القواعد الثابتة بحيث تجعل العنصر المتطور يدور في فلكها وعلى محورها. ومقارنة العنصر الثابت بالعنصر المتطور تكشف عن أن العنصر الثابت يعمل في الأصل على ضبط السلوك الاقتصادي [ ص: 37 ] للإنسان من حيث أخلاقياته الاجتماعية، بينما العنصر المتغير يعمل في الأصل على فهم وتحليل ميكانيكية عمل الاقتصاد. ولهذا يكون الاقتصاد الإسلامي بوجود العنصرين فيه ينظم الأخلاقيات والعلاقات الاجتماعية، ثم يحلل الميكانيكية الاقتصادية، بينما الاقتصاد الذي يكون كله متطورا يعمل في مجال واحد، وهو فهم وتحليل الميكانيكية الاقتصادية وهذا ما نعرفه فعلا عن عمل الاقتصاد المعاصر، الذي شغل فيه الاقتصاديون بضبط معادلة تشرح الميكانيكية الاقتصادية، وانصرفوا عن البحث في ضبط العلاقات الاجتماعية، التي تعمل على أخلاقيات المجتمع. وقد سار الاقتصاديون في هـذا المجال إلى حده الأقصى بحيث جعلوا موضوع علم الاقتصاد هـو التبادل

          [4] ويكون الإنسان بهذا ـ اقتصاديا ـ هـو الشخص الذي يعمل التبادل [5]

          3- بناء على ما سبق فإن الاقتصاد الإسلامي يقبل أن تعمل فيه كل أساليب التنظير والتحليل الاقتصادي، فهو قابل أن نصوغه في نظريات، وأن نترجم ذلك في أشكال بيانية أو صيغ رياضية.

          وإذا كنت أقرر وأقر إعمال أدوات التحليل في الاقتصاد الإسلامي، فإنني أسجل تحفظا على نوعية أدوات التحليل المستخدمة في الاقتصاد الوضعي. إن ما أعتقده هـو أن بعض أدوات التحليل المستخدمة في الاقتصاد بإجمال تحمل مضامين عقيدية وفلسفية ومنهجية، وبعض المضامين ليست إسلامية، بل إنه يظهر في بعضها التناقض مع الإسلاميات التي نعتقدها في الاقتصاد الإسلامي، أو هـي على الأقل قاصرة عن استيعاب العناصر الإسلامية، التي تحكم الموضوع محل البحث. وأعطي أمثلة: دالة الاستهلاك المعروفة في الاقتصاد، وسواء عبرنا عنها بيانيا [ ص: 38 ] أو رياضيا، فإن فيها مضامين ليست إسلامية، ومن ذلك ما يعرف باسم معظمة الإشباع المادي. ودالتي الادخار والاستثمار أيضا، فيهما مضامين ليست إسلامية، ومن ذلك ربطها داليا بالفائدة (الربا ) . ودالة الطلب على النقود، فيها أيضا مضامين ليست إسلامية.

          ولهذا، فإنه في الوقت الذي نقرر ونقر فيه استخدام أدوات وصيغ التحليل في الاقتصاد الإسلامي ، فإنه يلزم أن يصاحب ويلازم ذلك العمل على اكتشاف صيغ إسلامية لتفسير الظواهر والمتغيرات الاقتصادية تفسيرا يعبر عن المضامين والمفاهيم الإسلامية. وأهم وأولى ما ينبغي أن نحرص عليه، هـو ألا تشغلنا أو تنسينا أو تصرفنا الأدوات والصيغ التحليلية عن الأبعاد العقيدية والاجتماعية، التي يقوم عليها ويتميز بها الاقتصاد الإسلامي. ونجاحنا في تحقيق هـذا الهدف يضمن ألا يسير الاقتصاد الإسلامي في طريق استخدام أدوات وصيغ التحليل إلى الحد الذي يغيب البعد العقيدي والاجتماعي في الاقتصاد. [ ص: 39 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية