( ) فلا يصح تولية جاهل ومقلد ، وإن حفظ مذهب إمامه لعجزه عن إدراك غوامضه وتقرير أدلته ؛ إذ لا يحيط بهما إلا مجتهد مطلق قيل كان ينبغي أن يقول : إسلام إلى آخره ، أو كونه مسلما إلى آخره ؛ لأن الشرط المعنى المصدري لا الشخص نفسه . ا هـ . ويرد بوضوح أن المراد بتلك الصيغ ما أشعرت به من الوصف وأفهم كلامه أنه لا يشترط كونه كاتبا واشترطه جمع واختير فعلى الأول يتأكد ندب ذلك ، ولا كونه عارفا بالحساب المحتاج إليه في تصحيح المسائل الحسابية لكنه صحح في المجموع اشتراطه في المفتي فالقاضي أولى ؛ لأنه مفت وزيادة وبه يندفع تصويب مجتهد ابن الرفعة خلافه ، وقد يجمع بحمل الاشتراط على المسائل الغالب وقوعها وعدمه على ضدها ووجهه أن رجوعه لغيره في تلك يشق على الخصوم مشقة لا تحتمل بخلافه في هذه ، ولا معرفته بلغة أهل ولايته أي : وعكسه ومحلهما إن كان ثم عدل يعرفه بلغتهم ، ويعرفهم بلغته كما هو واضح .
وقياس ما مر في العقود أن المدار فيها على ما في نفس الأمر لا على ما في ظن المكلف أنه لو ولى من لم يعلم اجتماع تلك الشروط فيه ثم بانت فيه صحت توليته فقول جمع لا يصح : الظاهر أنه ضعيف وللمولي إن لم يعلم أن يعتمد في الصالح على شهادة عدلين عارفين بما ذكر ، ويسن له اختباره ليزداد فيه بصيرة .
( وهو ) أي : المجتهد ( من يعرف من الكتاب ، والسنة ما يتعلق بالأحكام ) وإن لم يحفظ ذلك عن ظهر قلب ولا ينحصر في خمسمائة آية ولا خمسمائة حديث خلافا لزاعميهما ، أما الأول ؛ فلأنها تستنبط حتى من آي القصص ، والمواعظ وغيرهما وأما الثاني ؛ فلأن المشاهدة قاضية ببطلانه ، فإن أراد قائله الحصر في الأحاديث الصحيحة السالمة من طعن في سند ، أو نحوه ، أو الأحكام الخفية الاجتهادية كان له نوع من القرب على أن قول ابن الجوزي [ ص: 108 ] أنها ثلاثة آلاف وخمسمائة مردود بأن غالب الأحاديث لا يكاد يخلو عن حكم ، أو أدب شرعي ، أو سياسة دينية ويكفي اعتماده فيها على أصل مصحح عنده يجمع غالب أحاديث الأحكام كسنن أبي داود أي : مع معرفة اصطلاحه وما للناس فيه من نقد ، ورد فيما يظهر ( وعامه ) راجع لما مطلقا ، أو الذي أريد به العموم ( وخاصه ) مطلقا ، أو الذي أريد به الخصوص ومطلقه ومقيده ( ومجمله ومبينة وناسخه ومنسوخه ) ، والنص ، والظاهر ، والمحكم ( ومتواتر السنة وغيره ) ، وهو آحادها ؛ إذ لا يتمكن من الترجيح عند تعارضها إلا بمعرفة ذلك ( و ) الحديث ( المتصل ) باتصال رواته إلى الصحابي فقط ، ويسمى الموقوف ، أو إليه صلى الله عليه وسلم ، ويسمى المرفوع ( والمرسل ) ، وهو ما يسقط فيه الصحابي ويصح أن يراد به ما يشمل المعضل أو المنقطع بدليل مقابلته بالمتصل ( وحال الرواة قوة وضعفا ) ؛ لأنه بذلك يتوصل إلى تقرير الأحكام ، نعم ما تواتر ناقلوه ، أو أجمع السلف على قبوله لا يبحث عن عدالة ناقليه وله الاكتفاء بتعديل إمام عرف صحة مذهبه في الجرح ، والتعديل .
( ولسان العرب لغة ، ونحوا ) وصرفا وبلاغة ؛ إذ لا بد منها في فهم الكتاب ، والسنة ( وأقوال العلماء من الصحابة فمن بعدهم إجماعا واختلافا ) لا في كل مسألة بل في المسألة التي يريد النظر فيها بأن يعلم أن قوله فيها لا يخالف إجماعا ولو بأن يغلب على ظنه أنها مولدة لم يتكلم فيها الأولون ، وكذا يقال في معرفة الناسخ ، والمنسوخ ( والقياس بأنواعه ) من جلي ، وهو ما يقطع فيه بنفي الفارق كقياس ضرب الوالد على تأفيفه ، أو مساو ، وهو ما يبعد فيه الفارق كقياس إحراق مال اليتيم على أكله ، أو أدون ، وهو ما لا يبعد فيه ذلك كقياس التفاح على البر في الربا بجامع الطعم صحة وفسادا وجلاء وخفاء وطرق استخراج العلل ، والاستنباط ولا يشترط نهايته في كل ما ذكر بل تكفي الدرجة الوسطى في ذلك مع الاعتقاد الجازم ، وإن لم يحسن قوانين علم الكلام المدونة الآن قال : وهذا سهل الآن لتدوين العلوم وضبط قوانينها [ ص: 109 ] واجتماع ذلك كله إنما هو شرط للمجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الفقه ، أما مقيد لا يعدو مذهب إمام خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه . وليراع فيها ما يراعيه المطلق في قوانين الشرع فإنه مع المجتهد كالمجتهد مع نصوص الشرع ، ومن ثم لم يكن له العدول عن نص إمامه كما لا يجوز الاجتهاد مع النص قال ابن الصلاح ابن دقيق العيد : لا يخلو العصر عن مجتهد إلا إذا تداعى الزمان وقربت الساعة .
وأما قول الغزالي كالقفال : إن العصر خلا عن المجتهد المستقل فالظاهر أن المراد مجتهد قائم بالقضاء لرغبة العلماء عنه وكيف يمكن القضاء على الأعصار بخلوها عنه والقفال نفسه كان يقول : لسائله في مسائل الصبرة تسألني عن مذهب أم عما عندي ؟ وقال هو وآخرون منهم تلميذه الشافعي : لسنا مقلدين القاضي حسين بل وافق رأينا رأيه قال للشافعي ابن الرفعة : ولا يختلف اثنان أن ابن عبد السلام وتلميذه ابن دقيق العيد بلغا رتبة الاجتهاد وقال ابن الصلاح إمام الحرمين والغزالي والشيرازي من الأئمة المجتهدين في المذهب . ا هـ . ووافقه الشيخان فأقاما كالغزالي احتمالات الإمام وجوها .
وخالف في ذلك ابن الرفعة فقال في موضع من المطلب : احتمالات الإمام لا تعد وجوها وفي موضع آخر منه الغزالي ليس من أصحاب الوجوه بل ، ولا إمامه والذي يتجه أن هؤلاء ، وإن ثبت لهم الاجتهاد فالمراد به التأهل له مطلقا ، أو في بعض المسائل ؛ إذ الأصح جواز تجزيه ، أما حقيقته بالفعل في سائر الأبواب فلم يحفظ ذلك من قريب عصر إلى الآن كيف وهو متوقف على تأسيس قواعد أصولية وحديثية وغيرهما يخرج عليها استنباطاته وتفريعاته وهذا التأسيس هو الذي أعجز الناس عن بلوغ حقيقة مرتبة الاجتهاد المطلق ولا يغني عنه بلوغ الدرجة الوسطى فيما سبق فإن أدون أصحابنا ومن بعدهم بلغ ذلك ولم يحصل له مرتبة الاجتهاد المذهبي فضلا عن الاجتهاد النسبي فضلا عن الاجتهاد المطلق الشافعي