الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) الشركة بالأعمال فأما العنان منها فلكل واحد منهما أن يتقبل العمل ، ومتى تقبل يجب عليه ، وعلى شريكه ; لأن كل واحد منهما بعقد الشركة أذن لصاحبه بتقبل العمل عليه ، فصار وكيله فيه كأنه تقبل العمل بنفسه ، ولصاحب العمل أن يطالب بالعمل أيهما شاء لوجوبه على كل واحد منهما ، ولكل واحد منهما أن يطالب صاحب العمل بكل الأجرة ; لأنه قد لزمه كل العمل ، فكان له المطالبة بكل الأجرة ، وإلى أيهما دفع صاحب العمل برئ ; لأنه دفع إلى من أمر بالدفع إليه ، وعلى أيهما وجب ضمان العمل ، وهو جناية يده ، كان لصاحب العمل أن يطالب الآخر به استحسانا ، كذا روى بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رضي الله عنهم أنه قال : إذا جنت يد أحدهما فالضمان عليهما جميعا ، يأخذ صاحب العمل أيهما شاء بجميع ذلك ، والقياس أن لا يكون له ذلك .

                                                                                                                                ( وجه ) القياس ظاهر لأن هذه شركة عنان لا شركة مفاوضة ، وحكم الشرع في شركة العنان أن ما يلزم كل واحد منهما بعقده لا يطالب به الآخر .

                                                                                                                                ( وجه ) الاستحسان أن هذه شركة ضمان في حق وجوب العمل ; لأن العمل الذي يتقبله أحدهما يجب على الآخر حتى يستحق الأجر به فإذا كانت هذه الشركة مقتضية وجوب العمل على كل واحد منهما ، كانت مقتضية وجوب ضمان العمل ، فكانت في معنى المفاوضة في حق وجوب الضمان ، وإن لم تكن مفاوضة حقيقة ; حتى قالوا في الدين : إذا أقر أحدهما بثمن صابون أو أشنان أو غيرهما أنه لا يصدق على صاحبه إذا كان المبيع مستهلكا إلا بإقراره أو بالبينة ، كذا إذا أقر أحدهما بأجر أجير أو حانوت بعد مضي هذه الإجارة ، وإن كان المبيع لم يستهلك ومدة الإجارة لم تمض لزمهما جميعا بإقراره ، وإن جحده شريكه كما في شركة العنان فدل أنه ليس لها حكم المفاوضة من جميع الوجوه بل من الوجه الذي بينا خاصة ، وقال أبو يوسف إذا ادعى على أحدهما ثوبا عندهما فأقر به أحدهما وجحد الآخر ، جاز الإقرار على الآخر ، ويدفع الثوب ويأخذ الأجرة ، قال وهذا استحسان وليس بقياس ; لأنهما ليسا بمتفاوضين حتى يصدق كل واحد منهما على صاحبه بل هما شريكان شركة عنان ; فلا ينفذ إقراره على صاحبه فيما في يد صاحبه كشريكي العنان في المال إذا أقر أحدهما بثوب من شركتهما وجحد الآخر أنه لا ينفذ إقراره على صاحبه في نصيبه ، كذا هذا ، وقد روى ابن سماعة عن محمد أنه أخذ بالقياس في هذه المسألة وقال : ينفذ إقراره في النصف الذي في يده ولا ينفذ في النصف الذي في يد الشريك ( ووجهه ) ما ذكرنا أن الشيء في أيديهما ، والشركة شركة عنان وأحد شريكي العنان إذا أقر بثوب في أيديهما لا ينفذ على صاحبه وإنما استحسنا ، وألحقناها بالمفاوضة في حق وجوب العمل ، والمطالبة بالأجرة في حق وجوب ضمان العمل فبقي الأمر فيما وراء ذلك على أصل القياس .

                                                                                                                                ( وجه ) الاستحسان لأبي يوسف أنه لما ظهر حكم المفاوضة في هذه الشركة في حق ضمان العمل وهو وجوبه حتى لزم كل واحد منهما كل العمل ; وجب له المطالبة بكل الأجرة ، وعليه بكل العمل ، ولزمه ضمان ما حدث على شريكه يظهر في محل العمل أيضا ، فينفذ إقراره بمحل العمل على صاحبه وإن عمل أحدهما دون الآخر ، بأن مرض أو سافر ، أو بطل فالأجر بينهما على ما شرطا ; لأن الأجر في هذه الشركة إنما يستحق بضمان العمل لا بالعمل لأن العمل قد يكون منه ، وقد يكون من غيره كالقصار والخياط إذا استعان برجل على القصارة والخياطة ، أنه يستحق الأجر وإن لم يعمل ; لوجود ضمان العمل منه وههنا شرط العمل عليهما ، فإذا عمل أحدهما يصير الشريك القابل عاملا لنفسه في النصف ، ولشريكه في النصف الآخر ، ويجوز شرط التفاضل في الكسب ، إذا شرط التفاضل في الضمان ، بأن شرطا لأحدهما ثلثي الكسب ، وهو الأجر ، وللآخر الثلث وشرطا العمل عليهما كذلك ، سواء عمل الذي شرط له الفضل أو لم يعمل بعد أن شرطا العمل عليهما ; لأن استحقاق الأجرة في هذه الشركة بالضمان لا بالعمل بدليل أنه لو عمل أحدهما استحق الآخر الأجر ، وإذا كان استحقاق أصل الأجر بأصل ضمان العمل لا بالعمل ، كان استحقاق زيادة الأجر بزيادة الضمان ، لا بزيادة العمل ، وحكي عن الكرخي أنه علل في هذه المسألة فقال : المنافع لا تتقوم إلا بالعقد ، والشريك قد قومها بمقدار ما شرط لنفسه ، فلا يستحق الزيادة عليه ، وهذا يشير إلى أن الاستحقاق بالعمل ، ورد عليه الجصاص وقال هذا لا يصح ، بدليل أنه لو شرط فضل الأجر لأقلهما عملا بأن شرطا ثلثا الأجرة له ، جاز ، فدل [ ص: 77 ] أن استحقاق فضل الأجرة بفضل الضمان لا بفضل العمل .

                                                                                                                                ولو شرطا التفاضل في الأجرة فجعلاها أثلاثا ، ولم ينسبا العمل إلى نصفين ، فهو جائز لأنهما لما شرطا التفاضل في الكسب ، ولا يصح ذلك إلا بشرط التفاضل في العمل ، كان ذلك اشتراطا للتفاضل في العمل تصحيحا لتصرفهما عند إمكان التصحيح .

                                                                                                                                ولو شرطا الكسب أثلاثا ، وشرطا العمل نصفين ، لم يجز ; لأن فضل الأجرة لا يقابلها مال ، ولا عمل ولا ضمان ، والربح لا يستحق إلا بأحد هذه الأشياء .

                                                                                                                                ( وأما ) الوضيعة فلا تكون بينهما إلا على قدر الضمان حتى لو شرطا أن ما يتقبلانه فثلثاه على أحدهما بعينه ، وثلثه على الآخر ، والوضيعة بينهما نصفان ، كانت الوضيعة باطلة والقبالة بينهما على ما شرطا على كل واحد منهما ; لأن الربح إذا انقسم على قدر الضمان كانت الوضيعة على قدر الضمان أيضا ; لأنه لا يجوز اشتراط زيادة الضمان في الوضيعة في موضع يجوز اشتراط زيادة الربح فيه لأحدهما ، وهو الشركة بالأموال حتى لا تكون الوضيعة فيها إلا بقدر المال في موضع لا يجوز اشتراط زيادة الربح فيه لأحدهما ، فلأن لا يجوز أن تكون الوضيعة فيه إلا على قدر الضمان أولى .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية