الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                فأما إذا كانت معلقة بشرط فإن كان المذكور شرطا سببا لظهور [ ص: 4 ] الحق أو لوجوبه أو وسيلة إلى الأداء في الجملة جاز بأن قال إن استحق المبيع فأنا كفيل لأن استحقاق المبيع سبب لظهور الحق وكذا إذا قال إذا قدم زيد فأنا كفيل لأن قدومه وسيلة إلى الأداء في الجملة لجواز أن يكون مكفولا عنه أو يكون مضاربة فإن لم يكن سببا لظهور الحق ولا لوجوبه ولا وسيلة إلى الأداء في الجملة لا يجوز بأن قال إذا جاء المطر أو هبت الريح أو إن دخل زيد الدار فأنا كفيل لأن الكفالة فيها معنى التمليك لما ذكرنا والأصل أن لا يجوز تعليقها بالشرط إلا شرطا ألحق به تعلق بالظهور أو التوسل إليه في الجملة فيكون ملائما للعقد فيجوز ولأن الكفالة جوازها بالعرف والعرف في مثل هذا الشرط دون غيره .

                                                                                                                                ولو قال إن قتلك فلان أو إن شجك فلان أو إن غصبك فلان أو إن بايعت فلانا فأنا ضامن لذلك جاز لأن هذه الأفعال سبب لوجوب الضمان ولو قال إن غصبك فلان ضيعتك فأنا ضامن لم يجز عند أبي حنيفة وأبي يوسف وجاز عند محمد بناء على أن غصب العقار لا يتحقق عند أبي حنيفة وعند محمد يتحقق ولو قال من قتلك من الناس أو من غصبك من الناس أو من شجك من الناس أو من بايعك من الناس لم يجز لا من قبل التعليق بالشرط بل لأن المضمون عنه مجهول وجهالة المضمون عنه تمنع صحة الكفالة .

                                                                                                                                ولو قال ضمنت لك ما على فلان إن نوى جاز لأن هذا شرط ملائم للعقد لأنه مؤكد لمعنى التوسل إلى ما هو المقصود وكذا لو قال إن خرج من المصر ولم يعطك فأنا ضامن لما ذكرنا ولو شرط في الكفالة بالنفس تسليم المكفول به في وقت بعينه جاز لأن هذا تأجيل الكفالة بالنفس إلى وقت معلوم فيصح كالكفالة بالمال وكذا سائر أنواع الكفالات في التعليق بالشرط والتأجيل والإضافة إلى الوقت سواء ; لأن الكل في معنى الكفالة على السواء .

                                                                                                                                ولو قال كفلت لك مالك على فلان حالا على أنك متى طلبته فلي أجل شهر جاز وإذا طلبته منه فله أجل شهر ثم إذا مضى الشهر فله أن يأخذ متى شاء ولو شرط ذلك بعد تمام الكفالة بالمال حالا لم يجز وله أن يطالبه متى شاء والفرق أن الموجود ههنا كفالتان إحداهما حالة مطلقة والثانية مؤجلة إلى شهر ، معلقة بشرط الطلب فإذا وجد الشرط ثبت التأجيل إلى شهر فإذا مضى الشهر انتهى حكم التأجيل فيأخذه بالكفالة الحالة هذا معنى قوله في الكتاب يأخذه متى شاء بالطلب الأول بخلاف ما إذا كان التأجيل بالشرط بعد تمام العقد لأن ذلك تعليق التأجيل بالشرط لا تعليق العقد المؤجل بالشرط والتأجيل نفسه لا يحتمل التعليق بالشرط فبطل ألا ترى أنه إذا كفل إلى قدوم زيد جاز .

                                                                                                                                ولو كفل مطلقا ثم أخر إلى قدوم زيد لم يجز لما ذكرنا كذا هذا ولو كفل بنفس المطلوب على أنه إن لم يواف به غدا فعليه ما عليه وهو الألف فمضى الوقت ولم يواف به فالمال لازم للكفيل لأن هنا كفالتان بالنفس وبالمال إلا أنه كفل بالنفس مطلقا وعلق الكفالة بالمال بشرط عدم الموافاة بالنفس فكل ذلك جائز .

                                                                                                                                ( أما ) الكفالة بالنفس فلا شك فيها وكذا الكفالة بالمال لأن هذا شرط ملائم للعقد محقق لما شرع له وهو الوصول إلى الحق من جهة الكفيل عند تعذر الوصول إليه من قبل الأصيل فإذا لم يوجد الشرط لزمه المال وإذا أداه لا يبرأ عن الكفالة بالنفس لجواز أن يدعي عليه مالا آخر فيلزمه تسليم نفسه وكذا إذا قال فعليه ما عليه وعليه ألف ولم يسم لأن جهالة قدر المكفول به لا تمنع صحة الكفالة ويلزمه جميع الألف لأنه أضاف الكفالة إلى ما عليه والألف عليه وكذا لو كفل لامرأة بصداقها إن لم يواف الزوج وصداقها وصيف فالوصف لازم للكفيل لأن الكفالة بالوصيف كفالة بمضمون على الأصيل وهو الزوج لأن الحيوان يثبت دينا في الذمة بدلا عما ليس بمال فيلزم الكفيل ولو كفل بنفس رجل وقال إن لم أوافك به غدا فعلي ألف درهم ولم يقل الألف التي عليه أو الألف التي ادعيت والمطلوب ينكر فالمال لازم للكفيل عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد رحمه الله لا يلزمه .

                                                                                                                                ( وجه ) قول محمد أن هذا إيجاب المال معلقا بالخطر ابتداء لأنه لم توجد الإضافة إلى الواجب ، ووجوب المال ابتداء لا يتعلق بالخطر فأما الكفالة بمال ثابت فتتعلق بالخطر ولم يوجد .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما إن مطلق الألف ينصرف إلى الألف المعهودة وهي الألف المضمونة مع ما أن في الصرف إلى ابتداء الإيجاب فساد العقد وفي الصرف إلى ما عليه صحته فالصرف إلى ما فيه صحة العقد أولى ولو كفل بنفسه على أن يوافي به إذا ادعى به فإن لم يفعل فعليه الألف التي عليه [ ص: 5 ] جاز لأنه كفل بالنفس مطلقا وعلق الكفالة بالمال بشرط عدم الموافاة بالنفس عند طلب الموافاة وهذا شرط ملائم للعقد لما ذكرنا فإذا طلب منه المكفول له تسليم النفس فإن سلم مكانه برئ لأنه أتى بما التزم وإن لم يسلم فعليه المال لتحقق الشرط وهو عدم الموافاة بالنفس عند الطلب .

                                                                                                                                ولو قال ائتني به عشية أو غدوة وقال الكفيل أنا آتيك به بعد غد فإن لم يأت به في الوقت الذي طلب المكفول له فعليه المال لوجود شرط اللزوم وإن أخر المطالبة إلى ما بعد غد كما قاله الكفيل فأتى به فهو بريء من المال لأنه بالتأخير أبطل الطلب الأول فلم يبق التسليم واجبا عليه وصار كأنه طلب منه من الابتداء التسليم بعد غد وقد وجد وبرئ من المال .

                                                                                                                                ولو كفل بالمال وقال إن وافيتك به غدا فأنا بريء فوافاه من الغد يبرأ من المال في رواية وفي رواية لا يبرأ .

                                                                                                                                ( وجه ) الرواية الأخيرة أن قوله إن وافيتك به غدا فأنا بريء تعليق البراءة عن المال بشرط الموافاة بالنفس والبراءة لا تحتمل التعليق بالشرط لأن فيها معنى التمليك والتمليكات لا يصح تعليقها بالشرط .

                                                                                                                                ( وجه ) الرواية الأولى أن هذا ليس بتعليق البراءة بشرط الموافاة بل هو جعل الموافاة غاية للكفالة بالمال والشرط قد يذكر بمعنى الغاية لمناسبة بينهما والأول أشبه .

                                                                                                                                ولو شرط في الكفالة بالنفس أن يسلمه إليه في مجلس القاضي جاز لأن هذا شرط مفيد ويكون التسليم في المصر أو في مكان يقدر على إحضاره مجلس القاضي تسليما إلى القاضي لما نذكر إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                ولو شرط أن يسلمه إليه في مصر معين يصح التقييد بالمصر بالإجماع إلا أنه لا يصح التعيين عند أبي حنيفة وعندهما يصح على ما نذكر إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                ولو شرط أن يدفعه إليه عند الأمير لا يتقيد به حتى لو دفعه إليه عند القاضي أو عزل الأمير وولي غيره فدفعه إليه عند الثاني جاز لأن التقييد غير مفيد .

                                                                                                                                ولو كفل بنفسه فإن لم يواف به فعليه ما يدعيه الطالب فإن ادعى الطالب ألفا فإن لم يكن عليه بينة لا يلزم الكفيل لأنه لا يلزم بنفس الدعوى شيء فقد أضاف الالتزام إلى ما ليس بسبب اللزوم وكذا إذا أقر بها المطلوب لأن إقراره حجة عليه لا على غيره فلا يصدق على الكفيل .

                                                                                                                                ولو قامت البينة عليها أو أقر بها الكفيل فعليه الألف لأن البينة سبب لظهور الحق وكذا إقرار الإنسان على نفسه صحيح فيؤاخذ به .

                                                                                                                                ولو كفل بنفسه على أنه إن لم يواف به إلى شهر فعليه ما عليه فمات الكفيل قبل الشهر وعليه دين ثم مضى الشهر قبل أن يدفع ورثة الكفيل المكفول به إلى الطالب فالمال لازم للكفيل ويضرب الطالب مع الغرماء أما لزوم المال فلأن الحكم بعد الشرط يثبت مضافا إلى السبب السابق وهو عند مباشرة السبب صحيح ولهذا لو كفل وهو صحيح ثم مرض تعتبر الكفالة من جميع المال لا من الثلث .

                                                                                                                                ( وأما ) الضرب مع الغرماء فلاستواء الدينين وكذا لو مات المكفول به ثم مات الكفيل لأنه إذا مات فقد عجز الكفيل عن تسليم نفسه فوجد شرط لزوم المال بالسبب السابق هذا إذا كانت الكفالة معلقة بالشرط .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية