الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال موسى بن عقبة : ثم دخل اليهود حصنا لهم منيعا يقال له : القموص ، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا من عشرين ليلة ، وكانت أرضا وخمة شديدة الحر ، فجهد المسلمون جهدا شديدا ، فذبحوا الحمر ، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكلها ، وجاء عبد أسود حبشي من أهل خيبر كان في غنم لسيده ، فلما رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح سألهم : ما تريدون ؟ قالوا : نقاتل هذا الذي يزعم أنه نبي ، فوقع في نفسه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ( فأقبل بغنمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ماذا تقول وما تدعو إليه ؟ قال : أدعو إلى الإسلام ، وأن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وأن لا تعبد إلا الله . قال العبد : فما لي إن شهدت وآمنت بالله عز وجل ؟ قال : لك الجنة إن مت على ذلك . فأسلم ، ثم قال : يا نبي الله ، إن هذه الغنم عندي أمانة . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخرجها من عندك وارمها بالحصباء ؛ فإن الله سيؤدي عنك أمانتك . ففعل ، فرجعت الغنم إلى سيدها ، فعلم اليهودي أن غلامه قد أسلم ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فوعظهم وحضهم على الجهاد ، فلما التقى المسلمون واليهود قتل فيمن قتل العبد الأسود ، فاحتمله المسلمون إلى معسكرهم ، فأدخل في الفسطاط ، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع في الفسطاط ثم أقبل على أصحابه وقال : لقد أكرم الله هذا العبد وساقه إلى خير ، ولقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين ، ولم يصل لله سجدة قط ) .

قال حماد بن سلمة : عن ثابت ، عن أنس : ( أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال : يا رسول الله ، إني رجل أسود اللون ، قبيح الوجه ، منتن الريح ، لا مال لي ، فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل أأدخل الجنة ؟ قال : نعم . فتقدم فقاتل حتى قتل ، فأتى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقتول فقال : لقد أحسن الله وجهك ، وطيب ريحك ، وكثر مالك . ثم قال : لقد رأيت زوجتيه من الحور العين ينزعان جبته عنه يدخلان فيما بين جلده وجبته ) .

[ ص: 288 ] وقال شداد بن الهاد : ( جاء رجل من الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه ، فقال : أهاجر معك . فأوصى به بعض أصحابه ، فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقسمه ، وقسم للأعرابي ، فأعطى أصحابه ما قسمه له ، وكان يرعى ظهرهم ، فلما جاء دفعوه إليه فقال : ما هذا ؟ قالوا : قسم قسمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما هذا يا رسول الله ؟ قال : قسم قسمته لك . قال : ما على هذا اتبعتك ، ولكن اتبعتك على أن أرمى هاهنا - وأشار إلى حلقه - بسهم ، فأموت فأدخل الجنة . فقال : إن تصدق الله يصدقك . ثم نهض إلى قتال العدو ، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقتول ، فقال : أهو هو ؟ قالوا : نعم . قال : صدق الله فصدقه . فكفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته ثم قدمه فصلى عليه ، وكان من دعائه له : اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك قتل شهيدا وأنا عليه شهيد ) .

قال الواقدي ( وتحولت اليهود إلى قلعة الزبير - حصن منيع في رأس قلة - فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ، فجاء رجل من اليهود يقال له : عزال فقال : يا أبا القاسم ، إنك لو أقمت شهرا ما بالوا ، إن لهم شرابا وعيونا تحت الأرض يخرجون بالليل فيشربون منها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك ، فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك . فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مائهم فقطعه عليهم ، فلما قطع عليهم خرجوا فقاتلوا أشد القتال ، وقتل من المسلمين نفر ، وأصيب نحو العشرة من اليهود ، وافتتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الكتيبة والوطيح والسلالم حصن ابن أبي الحقيق ، فتحصن أهله أشد التحصن ، وجاءهم كل فل كان انهزم من النطاة والشق ، فإن خيبر كانت جانبين الأول : الشق والنطاة ، وهو الذي افتتحه أولا ، والجانب الثاني : الكتيبة والوطيح والسلالم ، فجعلوا لا يخرجون من حصونهم حتى هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصب [ ص: 289 ] عليهم المنجنيق ، فلما أيقنوا بالهلكة وقد حصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر يوما ، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح ، وأرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزل فأكلمك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم " ، فنزلابن أبي الحقيق فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة وترك الذرية لهم ، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم ، ويخلون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مال وأرض وعلى الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة ، إلا ثوبا على ظهر إنسان . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا " . فصالحوه على ذلك ) .

قال حماد بن سلمة : أنبأنا عبيد الله بن عمر عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم ، فغلب على الزرع والنخل والأرض ، فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء ، واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا ، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد ، فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب ، كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي بن أخطب : ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير؟ . قال : أذهبته النفقات والحروب . فقال : العهد قريب والمال أكثر من ذلك . فدفعه رسول الله إلى الزبير فمسه بعذاب ، وقد كان قبل ذلك دخل خربة فقال : قد رأيت حييا يطوف في خربة ها هنا . فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة ، فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق ، وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب ، وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وذراريهم وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا ، وأراد أن يجليهم منها فقالوا : يا محمد ، دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها ، فنحن أعلم بها منكم . ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها ، وكانوا لا يفرغون يقومون عليها ، فأعطاهم خيبر على أن لهم [ ص: 290 ] الشطر من كل زرع وكل ثمر ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم . وكان عبد الله بن رواحة يخرصه عليهم كما تقدم . ولم يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصلح إلا ابني أبي الحقيق للنكث الذي نكثوا ؛ فإنهم شرطوا إن غيبوا أو كتموا فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله ، فغيبوا ، فقال لهم : أين المال الذي خرجتم به من المدينة حين أجليناكم ؟ قالوا : ذهب . فحلفوا على ذلك ، فاعترف ابن عم كنانة عليهما بالمال حين دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير يعذبه . فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانة إلى محمد بن مسلمة فقتله ، ويقال : إن كنانة هو كان قتل أخاه محمود بن مسلمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية